الفراعنة‏..‏

هوامش حرة

الفراعنة‏..‏

يكتبها‏:‏ فاروق جـــويـــدة



تابعت مع الملايين الاحتفالية الجميلة التي بدأ بها حفل افتتاح الدورة الأفريقية في القاهرة‏..‏ وشاهدت معهم العرض الفني الكبير الذي قدمه أكثر من خمسة آلاف مشارك في مشاهد رائعة في الإضاءة وتوزيع المجموعات والحركة والخلفيات التاريخية التي تنقلت ما بين أبو الهول‏..‏ والجعران الرمز الفرعوني القديم‏..‏ وانتهت بهبوط مركب الشمس في ساحة استاد القاهرة وسط موسيقي متعددة الألوان وإضاءة مبهرة‏..‏ وصور متقنة‏..‏ جاء الحفل في مجمله لوحة جميلة ومؤثرة‏..‏



وبعيدا عن الاحتفالية وما دار فيها ومباريات الدورة الأفريقية وما شهدته من انتصارات وهزائم حتي الآن وجدت نفسي أتوقف في هذه المناسبة عند قضية أرصدها منذ فترة بعيدة وأراها تكتسب كل يوم ظلالا جديدة وربما جاء الوقت لأطرحها بلا حساسية وهي قضية مصر الفرعونية‏..‏



أن الإعلام المصري يطلق دائما علي اللاعبين المصريين لقب الفراعنة‏..‏ وإذا فاز رياضي مصري في مسابقة دولية أطلقنا عليه اسم الفرعون‏..‏ حدث هذا مع لاعبي كرة القدم من الشباب المصريين الذين حققوا سمعة دولية أو في المسابقات الدولية لنجوم المصارعة والملاكمة وفي هذا السياق لم يكن غريبا أن تقوم التيمة الأساسية في الحفل الفني للدورة الأفريقية علي تاريخ مصر الفرعوني وأن يتجاهل أصحاب فكرة الاحتفالية كل مراحل التاريخ المصري سواء كان قبطيا أو مسيحيا أو إسلاميا وهناك مراحل أخري في تاريخنا متعددة الظلال والألوان‏..‏



والغريب أن هذا لم يحدث للمرة الأولي لقد حدث في مناسبات عدة وكأن هناك إصرارا علي إبراز تاريخ مصر الفرعوني دون كل المراحل التاريخية الأخري‏..‏ والغريب أن هذه ليست المرة الأولي التي نقدم فيها مراكب الشمس والجعارين الفرعونية في عمل فني‏..‏ لقد حدث ذلك مرات ومرات‏..‏ فهل هي محاولة لإعادة الوجه الفرعوني لمصر المعاصرة‏..‏ وهل ضاق تاريخنا العظيم ولم يعد فيه غير الجعارين ومركبة الشمس والفرعون‏..‏ ولماذا لا نقدم في مثل هذه المناسبة والعالم يشاهدنا عبر الفضاء صفحات أخري من تاريخنا ؟



أيهما كان أفضل الجعارين الفرعونية أم رحلة السيدة العذراء ومعها وليدها عليه السلام إلي تراب مصر المقدس‏..‏ أيهما أهم الجعارين أم أضرحة آل البيت ومساجدهم التي تزين وجه عاصمة المعز‏..‏ أيهما أفضل من حيث القيمة التاريخية أن نتحدث عن تاريخ ما زالت شواهده الفكرية والإنسانية قائمة أم تاريخ أندثر وتلاشت كل رموزه‏..‏



إن هذا لا يعني التقليل من أهمية تاريخ مصر الفرعوني فهو جزء عزيز من عمر وحياة هذه الأمة ولكن الإصرار علي تأكيد هذا المعني يحمل دلائل كثيرة يسيء البعض فهمها‏..‏



إن الحديث المتكرر عن مصر الفراعنة‏..‏ والشعب الفرعوني‏..‏ والأبطال الفراعنة إهدار لأجزاء أخري أعظم وأهم في رحلة المصريين مع الحياة وأكبر من تاريخهم الفرعوني‏..‏ وعندما تتحول كل احتفاليات المصريين إلي رموز فرعونية وتغفل مراحل أخري فهذا شيء يسيء لتاريخنا كله حيث ينبغي أن نتعامل مع كل مراحله بنفس الدرجة من الحب والتقدير‏..‏



إن الإصرار علي هذا التوجه يضع ظلالا كثيفة علي أدوار أخري ارتبطت بتاريخ مصر الحضاري والديني والإنساني لا نستطيع أن نتجاهل دور مصر المسيحية‏..‏ أو نتجاهل واجهتها الإسلامية أو نسقط عروبتها من أجل الجعارين‏..‏



أن أخطر ما في هذه القضية أننا نحاول استبدال تاريخ حي بتاريخ ميت لأن كل مراحل التاريخ المصري ما بعد الفراعنة ما زالت له شواهده ورموزه‏..‏ ما زالت المسيحية تضيء كنائس مصر ابتداء بالكنيسة المعلقة في مصر القديمة وانتهاء بعشرات الكنائس في المدن والقري المصرية‏..‏ وما زالت الصلوات تقام فيها‏..‏ ما زال الإسلام الحنيف يتألق في سماء مصر بآلاف المآذن والصلوات‏..‏ وما زالت القاهرة تردد كل صباح ملايين التكبيرات وما زالت اللغة العربية لغة القرآن الكريم يتحدث بها مئات الملايين من كل لون وجنس وهم يقرأون آياته المباركة‏..‏ هذه كلها شواهد حية لثقافة ما زلنا نعيش في حماها ونرتوي بها فكرا وإحساسا وأسلوب حياة‏..‏ إنني أعرف أن مصر الفرعونية هي أكثر فترات التاريخ الإنساني إبهارا خاصة في دوائر الغرب وربما كان السبب في ذلك أن الغرب يعتبر نفسه شريكا في اكتشاف هذه الفترة كما أن هناك طرفا آخر يمنحها أهمية خاصة وهم اليهود الذين يحاولون إيهام العالم بأنهم شركاء في صنع تاريخ مصر الفرعوني‏..‏ وقد حاولوا كثيرا تزوير التاريخ لتأكيد هذه الحقيقة ابتداء بإشارة رئيس وزراء إسرائيل مناحم بيجين وهو يزور الهرم إلي الرئيس السادات بأن لليهود نصيبا في الهرم الأكبر‏..‏ بل إن إحدي الفضائيات الإسرائيلية تضع هرما علي إرسالها‏..‏ والأغرب من ذلك هو طلبات إسرائيل المتكررة بإجراء حفريات في تل العمارنة بجوار أهرامات الجيزة‏..‏ وكان آخر هذه الأكاذيب حملة دولية تروج لها إسرائيل بأن سيدنا موسي عليه السلام هو توت عنخ آمون أو الملك الشاب‏..‏



أننا نعتز بتاريخنا الفرعوني‏..‏ ولكن من قال أن مصر كانت فرعونية فقط‏..‏ أن الغرب لا يريد أبدا الحديث عن وجه مصر الإسلامي وأزهرها الشريف ودورها في الدفاع عن الحضارة الإنسانية ضد الغزوات الصليبية‏..‏ إن الغرب لا يريد الحديث عن دور الحضارة الإسلامية التي زينت وجه العالم من خلال دور مصر الفاطمية‏..‏ والعباسية‏..‏ والأيوبية وحتي مصر الحديثة التي شاركت في تحرير دول أفريقيا من الاستعمار وعبوديته‏..‏ لم تكن مصر الفرعونية هي الحلقة الوحيدة التي ربطت بيننا وبين دول أفريقيا كما صور البعض في أحتفالية الافتتاح‏..‏ هناك امتداد حضاري اختلفت الوانه وأشكاله‏..‏ أن مصر هي التي نشرت المسيحية في دول أفريقيا‏..‏ ومصر هي التي قادت مظاهرة الإسلام في أعماق القارة السوداء‏..‏ ومن القاهرة انطلقت حركات تحرير أفريقيا ضد الاستعمار البغيض واحتضنت يوما رموز التحرير ابتداء من لومومبا و وبن بيلا و سيكتوري ونيكروما و احمدوبيلو ومانديلا وثورات التحرير في الجزائر وتونس والمغرب وليبيا والسودان وغانا وغينيا ونيجيريا‏.‏



هذا كله تاريخ نعتز به في القارة السوداء وكان ينبغي أن نقدمه في مثل هذه المناسبة التاريخية وألا تتوقف بنا الذاكرة عند الجعارين ومراكب الشمس‏.‏



إنني أقدر تاريخنا الفرعوني ولكنني أراه أقل جوانب التاريخ أثرا في حياتنا رغم الطقوس الجنائزية وإكرام الموتي وإهدار حقوق الأحياء والكثير مما بقي في الذاكرة المصرية العتيقة من هذا التاريخ العبودي الطويل‏.‏



لا أنكر انبهاري الشديد بأبو الهول والهرم والكرنك وحكايات الفلاح الفصيح‏..‏ ولكنني أري فيه تاريخا صامتا في كل شيء لغة وأشخاصا وأحداثا ورموزا سوف يقول البعض أنه تاريخ يتحدث وأماكن تنطق‏..‏ وأنا أقول أنه تاريخ مات‏..‏ ونحن نريد تاريخا للأحياء‏..‏ وإذا كان ذلك علي حساب تاريخ حي فهذه مغالطة كبري‏..‏ إننا نريد التاريخ الذي يمكن أن يقوم عليه مستقبل أمة وكيان شعب‏..‏ ولا أعتقد أن مصر الفرعونية يمكن أن تكون مستقبلا للمصريين‏..‏ إن مستقبل مصر في لغتها التي ما زالت تتحدثها‏..‏ وفي ثقافتها التي ما زالت تعيشها‏..‏ وفي رموزها التي تسكن كل قلب وتحرك كل المشاعر‏..‏ وهذا لا يعني أبدا أن نطوي وجهنا الفرعوني وننساه ولكن لا ينبغي أن نرتدي قناعا لا يمكن أن يصبح حقيقة خاصة أن السؤال الذي يطرح نفسه‏:‏ أين نحن الآن من الفراعنة ؟



وفي مثل هذه المناسبات الكبري ينبغي أن يتشكل فريق عمل لكي يختار موضوعا للعمل الفني بحيث تتعدد الآراء وتختلف الرؤي حتي نصل إلي فكرة مناسبة‏..‏ ومعالجة شاملة خاصة إذا تعلق الأمر بتاريخ وطن في حجم مصر‏..‏



عندما كنت أشاهد الجعارين علي الشاشة كنت أتساءل هل اختصرنا حضارة السبعة آلاف سنة في هذا المشهد الغريب‏..‏ إن في مصر محطات تاريخية كثيرة تشرف أي وطن وتتوج ألف شعب وكان ينبغي أن نتوقف قليلا عندها‏..‏ كانت الاحتفالية كما قلت جميلة في كل شيء إلا أنها كانت تحتاج إلي فكر أوسع ونظرة أعمق لتاريخ مصر‏..‏ ولعلنا نضع ذلك في الاعتبار في احتفالات قادمة وليس من الضروري أن نصر في كل مناسبة علي أن نقول أننا فراعنة ونطلق الجعارين في وجه الناس‏.‏



ويبقي الشعر

هذا زمان يخـنـق الأقمار‏..‏ يغـتـال الشموس



يغوص‏..‏ في دم الضحايا‏..‏



هذا زمان يقـطع الأشجار‏..‏ يمتهـن البراءة



يستبـيح الفـجر‏..‏ يستـرضي البغايا



هذا زمان يصلـب الطـهر البريء‏..‏



يقيم عيدا‏..‏ للـخطايا‏..‏



هذا زمان الموت‏..‏



كـيف تـقيم فوق القـبر عرسا للصبايا ؟‏!..‏



علب القمامة زينوها



ربما تـبدو أمام النـاس‏..‏ بستـانا نـديا



بين القمامة لـن تـري‏..‏ ثـوبا نـقـيا‏..‏



فالأرض حولـك‏..‏ ضاجعت كل الخطـايا



كـيف تـحلـم أن تـري فيها‏..‏ نـبيا



إرسال تعليق

أحدث أقدم