هوامش حرة
قراءة متأخرة لمأساة شعب
يكتبها: فاروق جـــويـــدة
عندما غرس الغرب الخنجر الصهيوني المسموم في قلب مليار مسلم في آسيا وإفريقيا وأوربا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية كان ينبغي أن يدرك أنه أقام دولة دينية عنصرية عقائدية في موطن الأديان.. وأن إسرائيل بطبيعتها وتكوينها دولة دينية رغم أنها تزعم أنها واحة الديمقراطية في المنطقة و في هذا الأفق المترامي من الكتلة الإسلامية حيث تبدأ بالجمهوريات الإسلامية شمالا في قلب الإتحاد السوفيتي السابق عبورا علي تركيا وإيران حيث يمتد جناح أخر في قلب آسيا يضم أفغانستان وباكستان ومسلمي الهند ثم يتجه إلي العالم العربي وكتلته البشرية الضخمة.. وسط هذه الكتلة السكانية والعقائدية الرهيبة قامت إسرائيل تحت دعوي أرض الميعاد والشعب العائد بعد ثلاثة آلاف سنة ليحتل وطنا أخر ويطرد شعبا من أرضه..
كان ينبغي أن يدرك الغرب وهو يزرع هذا الكيان الغريب أنه حول المنطقة كلها إلي بركان من الغضب والتعصب والرفض خاصة أن الكيان الجديد جاء بمشروع استيطاني ضخم ضرب عرض الحائط بكل الحسابات التاريخية ومصالح شعوب المنطقة وما بين يوم وليلة توهم أنه سيد المنطقة وصاحب الكلمة العليا فيها.
ولا شك أن هذا الخطأ التاريخي الفادح ترتبت عليه نتائج خطيرة لعل أهمها أن إسرائيل تحولت مع الوقت والزمن والإمكانيات التي اتيحت لها إلي بؤرة إرهاب تهدد كل ما حولها.. ولنا أن نتصور دولة قامت علي أساس عنصري.. ومجتمع عقائدي حتي النخاع.. وقوة عسكرية ضخمة اختارت الإرهاب وسيلة لفرض إرادتها ووصايتها وتهديد كل ما حولها وقبل هذا كله وجدت العالم المتقدم بكل إمكانياته العسكرية والاقتصادية والتكنولوجية يساندها ويقف خلفها ويؤيد أطماعها.
هذه المقدمة تصل بنا إلي زلزال هذا الأسبوع الذي أجتاح الأرض الفلسطينية ودفع بحركة حماس إلي مقدمة الصفوف أمام إرادة شعبية جارفة من أصحاب الوطن وأبناء الأرض..
في حسابات الساسة والسياسة يبدو ما حدث أمرا غريبا وفي منطق الشعوب وحركة البشر والتاريخ يبدو ما حدث منطقيا تماما.. إن المنطق يقول إننا أمام مجتمع له تركيبة خاصة فهو مجتمع عقائدي.. تحكمه دولة دينية حتي وإن حاولت ارتداء ثياب العصر ممثلة في الديمقراطية.. ولكن أقوي الأحزاب في إسرائيل هي المجموعات الدينية.. وأعلي سلطة في إسرائيل هي رجال الدين.. والحلم الصهيوني كله حلم يتركز علي مرجعيات دينية في الأرض والرموز والبشر والأماكن.
ولهذا لن يكون غريبا أن تخرج حماس من رحم هذه النيران.. نيران التعصب.. والرغبة في السيطرة.. والإرهاب بكل ألوانه و أشكاله.. وقبل هذا كله تأييد غربي أعمي لمشروع استباح أرض شعب آخر.
في تقديري أن الزلزال الحقيقي الذي حدث أخيرا هو قراءة متأخرة جدا لحقيقة الصراع العربي الإسرائيلي فقد حاولت كل الأطراف بما فيها الطرف العربي أن تضع هذا الصراع في إطار سياسي و إنه مجرد تعارض في لغة المصالح واستبعدت تماما- لأسباب غير معروفة- حقيقة هذا الصراع وأسبابه.. أن الطرف الوحيد الذي أدرك حقيقة هذا الصراع هو أمريكا حينما اخترعت معركة اسمها الحرب علي الإرهاب ولكن يبدو أن الوقت كان قد فات..
ولا شك أن هناك أطرافا كثيرة عجلت بظهور حماس علي الساحة الفلسطينية لكي تغير كل حسابات المنطقة في أقل من عشرين عاما هي عمرها في الساحة الفلسطينية.. إن أخطر ما في حماس أنها تعبر عن إرادة الشعب الفلسطيني صاحب الأرض والطرف الذي دفع الثمن أمام مزايدات وصفقات كثيرة.. وفي الوقت الذي استسلم فيه الواقع العربي تماما لمنظومة جديدة فرضتها القوة الأمريكية والسيطرة الإسرائيلية ونظم الحكم العربية جاءت حماس لتقلب كل موازين اللعبة وتطرح صيغة أخري للصراع لكي تعود به إلي أسبابه الحقيقية بعيدا عن مهرجانات السياسة وكانت وراء ذلك كله أخطاء كثيرة..
هناك أخطاء ارتكبتها حركة فتح منذ ظهورها.. لا أحد ينكر دور فتح في إعادة الحياة إلي القضية الفلسطينية خاصة بعد هزيمة67.. واستباحة انتصار أكتوبر.. ولكن فتح ما بعد اوسلو ومدريد اختلفت تماما عن فتح المقاومة واللاجئين والشهداء ومخيمات أبناء الشعب الضائع..
لا أحد يعلم أين ذهبت أموال الشعب الفلسطيني وكانت كلها في خزائن فتح وحسابات قادتها.. ولا أحد يعلم لماذا تغيرت أشكال الرجال وملامح المقاتلين عندما جلسوا في السلطة وارتدوا البدل الباريسية الفاخرة وركبوا السيارات الضخمة.. ؟! لا أحد يعلم ماذا بقي للشعب الفلسطيني وهو يموت كل يوم في خيامه أمام مفاوضات ومناقشات وولائم.. في الوقت الذي كان المسئولون الكبار في فتح يقودون معركة السلام في كوبنهاجن كان فقراء الشعب الفلسطيني يلقون آلامهم في زوايا حماس ومساجدها ودعوات شهدائها..
لم تخرج فتح من معركة السلام بأي مكاسب.. وإذا كان هناك شيء قد تغير فلم تغيره المفاوضات ولا الوفود ولا المعونات الغربية ولكن الذي غير شيئا من هذا الواقع الثقيل هي دماء الشيخ أحمد ياسين والرنتيسي والمقاومة الباسلة في الأرض المحتلة..
كان ينبغي أن يدرك المسئولون في فتح أن الشعوب تستطيع أن تفرز الأشياء فرزا حقيقيا حتي وإن تأخر ذلك.. وأن الفرق كبير جدا بين دماء سالت وتصريحات تلاشت في الهواء. وكان الخطأ الفلسطيني ممثلا في فتح أول الأعمدة التي قام عليها بناء حماس..
في جانب آخر كانت إسرائيل قد وصلت إلي قمة غرورها واستخدامها للقوة أمام ضعف عربي ذليل و استسلام كامل ولم تحاول أن تنتهز بذكاء فرصة السلام التي لاحت وتحققت مع مصر في كامب ديفيد ثم مع الأردن وأخيرا بدأت ظلالها مع الفلسطينيين.. ورغم أن إسرائيل حاولت إقناع العالم بنوايا حقيقية تجاه السلام إلا أن كل المؤشرات كانت تؤكد غير ذلك ابتداء باحتلالها لبنان ثم اعتدائها علي العراق ثم احتلالها للأرض الفلسطينية وهذا يعكس نوايا إسرائيل الحقيقية أنها تريد فرض سيطرتها علي المنطقة كلها وان الحلم الصهيوني ليس له آخر.
لقد تأخرت إسرائيل في اقتناص فرصة تاريخية للسلام اتاحها وجود رمز كبير في حجم ياسرعرفات.. ورفضت إسرائيل التفاوض معه وحاصرته في بيته ثم قتلته في باريس.. و أقتحم شارون برجاله المسجد الأقصي.. كل هذه الأسباب أخرجت من الأرض الفلسطينية شعبا أخر خرج من رماد الانتفاضة الأولي في الثمانينات ثم الانتفاضة الثانية في التسعينيات.. وهذه الأجيال التي خرجت من هذا الركام هي التي تصدرت الساحة الآن في الأرض الفلسطينية.. وكانت هذه الثمار الدامية هي ما حصده الإرهاب الإسرائيلي في خمسين عاما.
هناك خطأ ثالث ارتكبته القوة العظمي ممثلة في الرئيس بوش وحكومته عندما تعاملت مع العرب كل العرب بهذا الأسلوب المتعالي المتعجرف و هذه العنجهية التي لا تليق كأسلوب للتعامل بين الدول والشعوب.. لقد أدانت الإسلام العقيدة في موقف شخص واحد أسمه بن لادن.. وأقامت الدنيا علي كل المسلمين في العالم تحت دعوي محاربة الإرهاب.. ووضعت حماس في قوائم المنظمات الإرهابية ومنعت عنها المعونات الإنسانية التي كانت تصل من جهات مختلفة لمساعدة سكان الملاجئ والخيام.. وهذه كلها ليست مجرد أخطاء سياسية ولكنها أخطاء بل خطايا إنسانية أن تحرم شعبا من الطعام وتفرض عليه الموت فرضا ما بين احتلال غاشم وظروف حياتية قاسية.. ماذا تنتظر منه بعد ذلك ؟.والغريب أن أمريكا والغرب يمارسان نفس الأسلوب ويهددان بمنع المعونات عن الشعب الفلسطيني بسبب فوز حماس.
لقد عجلت أمريكا بمعركة الإرهاب وانتهزت أحداث11 سبتمبر الدامية ولم تقدم دليلا واحدا حتي الآن عن المسئولين عن هذه الأحداث.. ثم احتلت العراق ولم تقدم سببا واحدا حقيقيا حول أسباب احتلال بلد عربي.. ثم دخلت أفغانستان تحت دعوي إلقاء القبض علي بن لادن ولم تخرج حتي الآن.. ثم أرهبت الحكومات العربية بقضية الديمقراطية.. ثم وصلت إلي أقصي مدي في استباحة الفلسطينين وتركت إسرائيل تعربد فيهم كيفما شاءت ثم كان موقفها المتهور مع إيران وحزب الله.. وبعد ذلك كله يتساءل البيت الأبيض الآن لماذا وصلت حماس إلي السلطة.. إن كل شيء فعلته إسرائيل و أمريكا في العالم العربي فتح كل الأبواب أمام حماس لتكون في الصدارة فالحديد لا يفله إلا الحديد.
تأتي بعد ذلك خطايا الدول العربية التي اتخذت في أحيان كثيرة مواقف رافضة لحركة حماس إما تعاطفا مع إسرائيل أو تواطئا مع أمريكا أو مجاملة للمسئولين في السلطة الفلسطينية من حركة فتح.. وقد أخطأ العرب في كل هذه الأحوال ولم يقرأوا الساحة الفلسطينية القراءة الصحيحة حتي أصابهم الزلزال الأخير بالدوار.
إن السؤال الذي يطرح نفسه الآن.. وماذا بعد.. لقد أفاق الجميع علي زلزال ضخم تغيرت به خريطة المنطقة كلها.. لأول مرة يقف الشعب الفلسطيني علي أرضه من خلال حكومة عقائدية أمام دولة دينية.. ولأول مرة تكتشف إسرائيل أنها أضاعت أكبر فرصة للسلام أمام مطامعها التي لا تتوقف.. ولأول مرة تكتشف الأنظمة العربية أنها كانت بعيدة تماما عن نبض شعوبها الحقيقي.. ولأول مرة تدرك أمريكا أنها دخلت معركة ضد الإرهاب بأسلحة إرهابية و إنها خلقت مناخا دوليا وليس إقليميا لتشجيع هذا الإرهاب.. لقد خرجت حماس من براكين الغضب والمهانة.. والاستخفاف بأقدار الشعوب وإهانة عقائدهم وتراثهم الديني والحضاري والانساني.. ويبدو أن العالم كله سيدفع الثمن ووصول حماس للسلطة بداية الطوفان الذي لن يوقفه أحد.
ويبقي الشعر
يا للمهانة عنـدما يغدو صلاح الدين
خلف القـدس مطرودا
بلا وطن.. بـلا سلطان
من علــم الأسد الأبي
بأن ينكـس رأسه ويهادن الجرذان
من علــم الفـرس المكابر أن يهرول ساجدا
في موكـب الحملان
من علـم القلب التقي
بأن يبيع صلاته ويعود للأوثان
من علــم الـوطن العريق بأن يبيع جنوده..
ويقايض الفرسان.. بالغلـمان
من علــم الـوطن العزيز بأن يبيع تـرابه
للراغبين بأبخس الأثمان
من علــم السيف الـجسوربأن يعانق خصمه
ويعلق الشـهداء في الميدان
في كل شيء أنت يا وطني مهان