وتبقي مصر وطنا للجميع

هوامش حرة

وتبقي مصر وطنا للجميع

يكتبها: فاروق جـــويـــدة



كان المصريون في يوم من الأيام يتمتعون بمجموعة من الصفات وضعتهم دائما في طليعة الشعوب التي تؤمن بالحب والتسامح والسلوك المترفع والحوار الراقي‏..‏ وكان ذلك واضحا في سلوكيات الناس‏..‏ والتجمعات السكانية مهما أختلفت في مستوياتها ومكوناتها المادية والمعنوية‏..‏ ولم يكن غريبا علي المصريين هذا الإحساس العميق بالانتماء لهذا الوطن‏..‏ لأن هناك أشياء كثيرة جمعتهم علي حبه‏..‏ تاريخ حضاري طويل اختلفت أشكالة والوانه ومراحله ونيل يمتد في شرايين القلوب قبل أن يسلك طريقة بإمتداد الوطن‏..‏ وعلاقات إنسانيه في غاية الخصوصية جمعت التقاليد والاعراف والثقافة‏..‏



وكانت هناك مشاعر ممتدة من التسامح في كل شيء ابتداء بالأديان السماوية الثلاثة وقد عبرت جميعها وسكنت أرض الكنانة وانتهاء بهذا الموقع الجغرافي الفريد الذي جعل مصر مزارا للدنيا من القادمين شرقا و غربا‏..‏



كانت هذه هي مصر التي عرفناها بقلوبنا قبل أن نراها بعيوننا ورصدنا تاريخها واكتشفنا في صفحاته هذه الخصوصية التي تجسدت دائما في هذه الحميمية والالفه بين أبناء هذا الوطن من مسلمين وأقباط‏.‏



وكلما راجعت هذه الصفحات وقرأت عنها وتذكرت صور الأمس القريب تعجبت من هذا الإلحاح الغريب علي قضية ما يسميه البعض بالفتنة الطائفية وما نسمعه من حكايات هنا أو هناك وهي لا تتجاوز خلافات بين أشقاء أو أبناء أسرة واحده‏..‏ ولو أننا صدقنا مع أنفسنا ووضعنا الأشياء في مكانها لاكتشفنا أن هناك مبالغات مقصودة تحمل الكثير من سوء النوايا والأغراض ماذا يعني أن يتزوج مسلم من مسيحية أو تتزوج مسيحية من مسلم وماذا يعني أن تغير فتاه دينها أو يختار فتي دينا أخر أوان تحدث جريمة هنا أوهناك‏..‏ لقد عبرنا جميعا وفي فترة معينة بهواجس كثيرة وحالات شك وحيره في معتقداتنا وهناك أجيال جديدة حائرة ما بين الفضائيات وعريها‏..‏ والأغاني وتجاوزاتها‏..‏ والنت وكوارثه‏..‏ ماذا يعني أن يجد شاب صغير نفسه حائرا بين معتقدات وقراءات وتقاليد ووقف حائرا أو فتاه أحبت وتزوجت علي غير دينها‏...‏ هل تغيير عقيدة أو أختيار دين آخر سوف يسقط الأديان السماوية من عرشها‏..‏ لن يضير الإسلام أن يتركه شخص أو ألف شخص ولن يضير المسيحية أن يتركها ألف أو أكثر‏..‏



وفي مجتمع بلغ الآن أكثر من سبعين مليون نسمة لن يقلب موازينه شاب أسلم أو أخر تنصر‏..‏ ومثل هذه الحالات الفردية لاتحتمل أبدا مبدأ المبالغة وتضخيم الأشياء لأن في ذلك أفتراء علي الحقيقة‏.‏ ولهذا لابد أن نعترف أن هناك مبالغات كثيرة فيما يحدث في مصر الآن حول قضية العلاقة بين المسلمين والأقباط أو ما يسمي الفتنة الطائفية وكأن هناك إصرارا علي فرضها فرضا علي واقع حياتنا‏.‏ رغم أنها لا تتجاوز في الحقيقة أكثر من قضية حب طائش بين شاب وفتاة غير أحدهما دينه أو خلافات يمكن أن تحدث بين أبناء الأسرة الواحدة‏.‏



هناك قدر كبير من الحساسية يتحمل مسئوليته الأعلام المصري سواء كان مدافعا أو مهاجما هنا أو هناك إن الصحافة تبالغ كثيرا في القضايا التي تتعلق بالوحدة الوطنية وكأنها تبحث عن قضية مثيره‏..‏ ولا شك أن هناك أطراف أخري تساعد علي تكثيف هذا المناخ بالحق والباطل‏..‏



أول هذه الأطراف هي الدولة نفسها التي أجادت في زمان مضي لعبة الصراع بين الثنائيات في كل شيء ابتداء بالمثقفين ومواقفهم وانتهاء بأهل الثقة وأهل الخبرة‏..‏ هذه الثنائيات كان هدفها ضرب فئات المجتمع بعضها ببعض في فترة من تاريخنا السياسي من أجل مكاسب سياسية مؤقتة أو لإجهاض تيار لحساب تيار آخر‏..‏



حدث هذا بين الشيوعيين والإخوان المسلمين وانتهي الأمر بدخول الاثنين السجون معا‏..‏ وحدث مرة أخري بين الساداتيين والناصريين‏..‏ وبين التقدميين والرجعيين وكان من السهل أن يولد صراع مفتعل بين هذه الفئات من أجل مصلحة ما أو في ظرف تاريخي أو سياسي معين‏..‏ والغريب أن لعبة الازدواجية الكريهة دخلت دائرة الاستخدام السيء ما بين المسلمين والأقباط في حالات كثيرة‏..‏ وهو ما أطلق علية البعض الفتنة الطائفية‏..‏ والشيء المؤكد أن مصر لم تعرف هذه الفتنة في أثناء ثورة‏19‏ بزعامة سعد زغلول‏..‏ ولم تعرفها في معارك الاستقلال الوطني ولم تعرفها أمام الاحزاب السياسية قبل ثورة يوليو وقد جمعت المسلمين والأقباط معا في كل معاركها‏..‏ وأمام هذه الازدواجية كان من السهل أن تظهر المشاكل والأزمات حول بناء الكنائس أو توزيع المناصب أو اختلاف المواقع بين فئات المجتمع



ولو أننا وضعنا أسسا ومعايير سليمة لكل هذه الأشياء فلن يشتكي قبطي واحد ولن يتذمر مسلم لأن المجتمع تحكمه قوانين وقواعد عادلة في توزيع الفرص علي أبنائه دون النظر إلي أصل أو ديانة‏..‏ أن الأزمة الحقيقية أن الظلم يقع علي الجميع وأنه في ظل غياب تكافؤ الفرص يصبح من السهل غياب العدالة عن كل الأطراف مسيحيين أو مسلمين‏..‏



الجانب الثاني إن دخول أطراف خارجية في نسيج المجتمع المصري أمر في غاية الخطورة ويجب أن يكون مرفوضا من الجميع مسلمين وأقباط‏...‏ وإذا كانت الدولة قد فتحت الحوار مع قوي أجنبية حول هذه القضية فهذا خطأ فادح بكل المقاييس‏..‏ هل يستطيع أحد أن يناقش البيت الأبيض عن أحوال الأقليات في أمريكا‏..‏ وهل تقبل الدول الأوربية إدانه عمليات التمييز والتهميش وسوء المعاملة لفئات كثيرة فيها من غير مواطنيها‏..‏



وهل يستطيع أحد أن يدين أساليب التعامل الوحشي من أجهزة الأمن للمسلمين في أوربا‏..‏ فلماذا نصبح نحن في بلادنا هدفا لمؤامرات مشبوهة تسعي إلي غرس الفتنة وتمزيق أبناء الشعب الواحد وعلي أي أساس سمحت الدولة بفتح حوار حول هذه القضايا واستقبال لجان دولية ووفود أجنبية لمناقشة قضايا تدخل في صميم سيادة الوطن ومقدساته‏..‏ أننا في مصر بعيدا عن الأغنيات الوطنية والاحتفاليات الموسمية ندرك مسئولية الحفاظ علي وحدة هذا الوطن وهذه المسئولية تمثل أحدي الثوابت في فكر ووجدان كل مصري يدرك أن مصر لنا جميعا‏..‏ ومن هنا يجب أن تغلق مصر الدولة كل محاولات التدخل في شئوننا الدخلية تحت أي شعار حتي ولو شهدت أمريكا مليون مؤتمر فلن تجد من يسمع لها وأول المعترضين علي هذا التدخل هم أقباط مصر أنفسهم لأنهم يدركون حجم الكارثة التي تهدد أمن وأستقرار هذا الوطن أمام هذه المؤامرات المشبوهة‏.‏



هناك جانب أخر في القضية يتعلق ببعض رجال الدين الذين يظهرون علي الفضائيات ويسيئون للأديان وللبشر ولكل ما هو جميل في حياة المصريين‏..‏ لا أتصور أن يقف عالم مسلم ليهاجم المسيحية لأن جوهر الإسلام هو أحترام عقائد الأخرين وتقديس كل أنبياء الله ورسله ومن يقرأ القرآن الكريم يدرك تلك المكانة العظيمة التي وضع فيها الإسلام السيدة مريم والمسيح عليهما السلام‏..‏



لا أتصور أن يقف رجل دين مسيحي في أحدي الفضائيات ويهاجم القرآن الكريم أو يسخر من آياته‏..‏ إن هذه الأعمال الصبيانية التي يلجأ إليها بعض أشباه العلماء وأشباه القساوسة لا تتناسب مع جلال الأديان وسماحة رجالها أن هؤلاء يشعلون بحق نار الفتنة ويجب إن نتصدي لهم ولدينا والحمد لله عشرات بل مئات من علماء المسلمين و قساوسة المسيحية وهم قادرون علي الرد علي هذه التجاوزات والتصدي لها‏..‏ إن دور رجل الدين ومسئولياته أن يحافظ علي تلك العلاقة بين الإنسان وربه أيا كان الدين الذي يؤمن به لأن الأديان في جوهرها تسعي إلي هدف واحد‏..‏ ورسالة واحدة‏.‏



هناك جانب آخر في هذه القضية وهو المواطن المصري الذي أصابته أمراض كثيرة لعل أخطرها هذا الانغلاق الرهيب في الفكر بحيث اختلطت أمامه الصور والأشياء‏..‏ هذا المواطن كان دائما يتسم برحابة الصدر وسعة الأفق والتسامح والرغبة في المعرفة ومنذ أنغلق علي نفسه شاعت بيننا خزعبلات كثيرة وأجتاحت حياتنا أفكار غريبة لقد تحولت قضايا المجتمع إلي من يبني مسجدا أو من يقيم كنيسة وفي الوقت الذي زاد فيه عدد المساجد وارتفع عدد الكنائس تراجعت السلوكيات الحقيقية التي يطالبنا بها الإسلام وتحثنا عليها المسيحية‏..‏ لقد أصبح الاهتمام بالشكليات والمظاهر هو الأساس في سلوكيات المصريين أما التمسك بما جاء في الأديان من قيم وسلوكيات وأخلاق فنحن أبعد ما نكون عنه‏..‏ وانتشرت أمام ذلك مفاهيم كثيرة خاطئة وأتسعت دائرة الحساسيات ما بين ما هو مسلم وما هو مسيحي رغم أن الجميع في سفينة واحدة‏.‏



ولا شك أن هبوط المستوي الثقافي والفكري في الشارع المصري يتحمل مسئولية ذلك لأن الثقافة السائدة ثقافة انعزالية ومتخلفة ولا تشجع علي الحوار أو الاختلاف في الرأي‏..‏ ومع تراجع المناخ غاب المثقفون الكبار وزادت مشاكلهم أمام قضايا كثيرة هي أبعد ما تكون عن واقعنا الثقافي و الإنساني‏..‏ ولم يكن غياب المثقفين هو الكارثة الوحيدة فقد غابت أيضا أجهزة الثقافة في الدولة وجذبتها المهرجانات والاحتفاليات وتركت عقول الأجيال الجديدة يعشش فيها الجهل والتخلف وضيق الأفق‏.‏



ولقد ساعد علي ذلك كله مناخ اقتصادي شديد القسوة وظروف اجتماعية غاية في الإحباط أمام شباب لا يجد عملا ولا استقرارا في بيت أو أسرة‏..‏ وأمام غياب الحرية الحقيقية في التعبير كان من السهل افتعال الأزمات وخلق المناخ المناسب لصراعات لا مبرر لها‏..‏ إن هذه الصراعات ابنة شرعية لمشاكل كثيرة في المجتمع وعندما يصبح المجتمع قادرا علي تجاوز أزماته لن يكون هناك مبرر لهذه الصراعات التي تحاول أن نؤكدها لأنفسنا بالحق والباطل‏..‏ عندما يؤكد المجتمع حق جميع أبنائه في فرص متكافئة وعدالة اجتماعية حقيقية وحرية للجميع‏..‏ وفرصة عمل كريمة ومسكن لائق وأسرة سعيدة‏..‏ يومها سوف تعود مصر لكل أبنائها أقباطا ومسلمين‏..‏ ولن نسمع مرة أخري عن هذا المصطلح الغريب الذي يسمي الفتنة الطائفية‏..‏ أن الفتنة الحقيقية أن نفتح أبوابنا لأطراف أخري تسعي لإفساد علاقة تاريخية بين أبناء الوطن الواحد‏.‏




إرسال تعليق

أحدث أقدم