الإخوان المسلمون بين الدين والسياسة

هوامش حرة

الإخوان المسلمون بين الدين والسياسة

يكتبها‏:‏ فاروق جـــويـــدة






لم تكن مفاجأة لي وللكثيرين غيري أن يحقق الإخوان المسلمون هذا الإنجاز الكبير في الانتخابات البرلمانية‏..‏ كان وجودهم في الشارع المصري طوال السنوات الماضية وإصرارهم علي ان يكون لهم دور ومكان فيه شيئا واضحا وكان تواصلهم مع المواطنين خاصة البسطاء منهم قضية لامجال للشك فيها‏,‏ وكانت هناك خدمات كثيرة يقدمونها للناس بأثمان زهيدة وفي احيان كثيرة يقدمونها بلاثمن‏..‏ وكان تأثيرهم واضحا في أوساط النخب المميزة من الأطباء وأساتذة الجامعات والمحامين وطلاب الجامعات والنقابيين بل والقضاة والصحفيين والمدرسين وربما ظهر ذلك واضحا في انتخابات النقابات المهنية‏,‏وقد سيطر الإخوان المسلمون علي معظمها منذ بداية التسعينيات وحتي الآن‏..‏



وقد اختار الاخوان المسلمون اسلوب الاقناع والحركة الهادئة والمنظمة بحيث إذا وصلوا إلي هدف ما وضعوا برنامجا لما سيجيء بعده من أهداف‏..‏ وكان من الخطأ أن يتصور البعض خاصة الأحزاب السياسية ان الاخوان المسلمين مجموعة من المشايخ المتواكلين السذج الذين يعملون بلا تخطيط أو دراسة‏..‏



ولاشك ان من يتابع تاريخ الاخوان المسلمين بحياد وموضوعية سوف يتوقف عند جوانب كثيرة تحسب لهم‏..‏ وأخري ربما تحسب عليهم‏..‏ كانوا من أكثر فئات الشعب المصري التي تعرضت لألوان كثيرة من البطش والتنكيل بهم وللأسف الشديد ان هذا الثمن دفعه الاخوان في كل مراحل تاريخنا الحديث سواء ما كان قبل ثورة يوليو أوما جاء بعدها‏..‏ كانت لهم قصة طويلة في سجون صلاح نصر وثورة يوليو‏,‏ وعمليات الاعدام الجماعي ابتداء بالشهيد سيد قطب ورفيقه عبد القادر عودة رحمهما الله وانتهاء بآخرين قضوا حياتهم في السجون والمعتقلات وما يتبع ذلك كله من عمليات تعذيب وحشي واعتداء علي المحرمات‏.‏



ومن جانب آخر فتحت ثورة يوليو أول أبواب الصراع بين الاخوان المسلمين والشيوعيين واستفادت من هذا الصراع زمنا طويلا عندما تركت لكل جانب ان يقوم بتصفية آخر‏.‏



وعندما جاء الرئيس السادات فتح ابواب الصراع مرة أخري بين الاخوان وبقايا الشيوعيين‏,‏ وعندما اعلن شعار دولة العلم والايمان فتح أبواب السجون وأخرج الاخوان المسلمين ليتصدروا الساحة الفكرية والدينية طوال فترة السبعينيات وفيها حقق الاخوان المسلمون وجودا واسعا في الشارع المصري واستغلوا هذه الفرصة بصورة غير مسبوقة‏..‏ وانتهت هذه المرحلة برحيل الرئيس السادات وان بقي الاخوان المسلمون ينتظرون الفرصة‏.‏



وبعد ان دخلت الساحة السياسية مجموعة من الأحزاب حاول الاخوان المسلمون الهروب من الحصار الأمني السياسي والتسلل الي مجلس الشعب فكانت لهم جولة مع حزب الوفد ثم استقر بهم المقام لفترة قصيرة مع حزب العمل وجريدته الشهيرة الشعب‏..‏ وانتهت هذه الفترة ايضا بخصومة بل قطيعة مع الدولة عقب الغاء حزب العمل واغلاق جريدته‏.‏



في هذه المراحل لم ييأس الاخوان المسلمون وكانوا يخرجون من ساحة للمواجهة لينتقلوا الي ساحة اخري فكانت معركتهم في النقابات المهنية‏,‏ وفي تقديري انهم لعبوا هذه المعركة بمهارة وذكاء شديدين وهي من أخطر انجازاتهم السياسية‏.‏



من الناحية الانسانية أجد تعاطفا شديدا بيني وبين الاخوان المسلمين حيث لاتملك غير ان تقدر مراحل نضالهم والثمن الذي دفعوه وقد كان غاليا جدا في معظم الأحيان‏.‏



من الناحية الاجتماعية لاتملك إلا أن نقدر دور الاخوان المسلمين في الأنشطة الاجتماعية المختلفة‏.‏



من الناحية التنظيمية في الشارع المصري نجح الاخوان المسلمون نجاحا كبيرا بينما فشل جهابذة الاحزاب الاخري بمن فيهم حزب الأغلبية‏..‏



قلت تربطني علاقات ود ومحبة مع عدد كبير من رموزهم الأحياء‏..‏ وأحمل تقديرا لكتابات ومواقف الكثيرين منهم وهم في رحاب الله الآن‏..‏ قد لاتختلف مع الاخوان حول قضايا الاخلاق والالتزام السلوكي والحلال والحرام والدعوة الي الترابط الانساني والدفاع عن العقيدة ولغة التراحم ومنظومة القيم التي ينبغي ان نحافظ عليها طبقا لقواعد ديننا الحنيف ولكن هناك قضايا كثيرة حولها خلاف كبير‏:‏


*‏ أن الربط بين الدين والسياسة ربط خاطئ ومن أراد ان يمارس العمل السياسي فعليه ان يخلع عباءة الدين‏..‏ اننا في السياسة نمارس كل ألوان الدجل والزيف والتحايل‏..‏ ولكننا أمام الدين ينبغي ان نقف في خشوع وطاعة أمام الله كلاما وسلوكا وعملا‏,‏ والخلافات في السياسة لاحدود لها‏..‏ والنقد فيها قد يصل الي درجة التطاول فلاسقف في الفكر السياسي‏..‏ ولكننا في الدين نضع ألف حاجز وحاجز‏..‏ وهناك أكثر من سقف ينبغي ألا نتجاوزه‏..‏ عندما أتحدث في السياسة فلا حدود أمامي‏,‏ وعندما أناقش قضايا الدين فأنا محكوم بنصوص وقواعد لاينبغي تجاوزها أما أمام السياسة فإنسان يحاور انسانا اخر‏..‏ ولكنني في الدين أمام الخالق سبحانه وتعالي وهو اعلم بي من نفسي‏.‏

ان قضايا الاخلاق في الدين واضحة وصريحة ولكن السياسة عمل بلا أخلاق ومن أراد ان يمارس العمل السياسي من منظور أخلاقي فعليه ان يجلس في بيته ويغلق أبوابه ويقرأ ما كتبه الرومانسيون القدامي‏.‏


*‏ ان قضايا الحرية في سلوكيات البشر لاحدود لها إلا من حيث تبدأ حرية الآخرين‏..‏ ولهذا يصبح الحديث عن الطاعة العمياء في بعض قضايا الدين أمرا مشروعا دينيا‏..‏ ولكن في السياسة لاطاعة لشيء إلا القوانين التي تحكم سلوكيات الناس وهي من صنعهم‏..‏ ان الحديث عن الآخرة وعذاب القبر والقضاء والقدر يختلف تماما عن الحديث عن العمال والفلاحين والديون والفوائد في البنوك وقضايا الفساد‏.‏

إذا كانت الطاعة واجبا في الحديث عن الآخرة والجنة والنار فهي خطيئة في قبول واقع سياسي مريض أو مشبوه ولاينبغي أبدا ان نخلط بين ما قدره الخالق لنا‏..‏ وما صنعه الخلق فينا‏.‏


*‏ في قضايا الفنون يصبح الربط بين الابداع والدين جناية كبري لان الابداع ساحة خيال وشطط وتمرد‏,‏ والدين ساحة عبادة وخضوع وسكينة‏..‏ وللدين قواعد تحكمه وتحكم علاقة الانسان بالكون وبالخالق وبالناس‏..‏ ولكن الإبداع بلا قواعد إلا ما يقرره ضمير الانسان نفسه‏..‏ ومن هنا فإن التفسير الديني للفنون خطيئة كبري إلا إذا خرج الفن علي الأخلاق والأخلاق سبقت الأديان أما ان نطبق قواعد الدين علي الفنون مابين الحرام والحلال والمباح واللامباح‏,‏ فهذا أيضا جانب خلاف من الصعب ان نتفق عليه‏..‏ في شعر ابن عربي والحلاج‏..‏ وابن الفارض والخيام ابيات كثيرة يراها البعض كفرا‏..‏ ويراها الصوفية قمة الإيمان واليقين‏.‏


*‏ ومن الجوانب الخلافية أيضا الحوار والتركيبة القبلية التي تلزم بالطاعة وتلغي ارادة الانسان في علاقته بالاخرين‏..‏ اننا مع الاحترام ومع لغة الخطاب الراقية لكن ذلك لايلغي خلاف الرأي بل تعارض المواقف والأفكار‏..‏ لايوجد في السياسة رأي واحد ولافكر واحد ولاشخص ملهم واحد‏..‏ ولوشاء ربك لجعل الناس أمة واحدة‏..‏ وليس من المنطقي أن يتفق مليون مسلم علي شخص واحد‏..‏ أو موقف واحد‏..‏ ان منطق الطاعة العمياء لامكان له في الدين ولافي السياسة ولا في الفكر الانساني كله وجادلهم بالتي هي أحسن‏..‏ أي أن الجدل والخلاف حق مشروع‏..‏ ومن هنا يصبح مبدأ الوصاية حتي باسم الدين ضد الدين نفسه ولهذا فان حرية الفكر والعقيدة أولي حقوق الانسان التي لاخلاف عليها ولهذا لاينبغي ان يصادر الانسان فكر انسان اخر بدعوي انه صوت الله في الأرض فليس بيننا الان أنبياء لان آخرهم كان محمدا عليه الصلاة والسلام‏..‏ فلا أحد فوق الخلاف أو حتي النقد أو المساءلة واذا كنا نرفض الوصاية في السياسة ممثلة في الحاكم فالأولي بنا ان نرفضها في الدين ممثلا في شخص فقيه أو عالم يحلل لنفسه مالم يحلله الله لانبيائه ورسله‏.‏


*‏ نأتي بعد ذلك الي مناطق أخري من الخلاف حول دور المرأة‏,‏ والقضايا السياسية والاقتصاد والسياحة وسلوكيات البشر والوصاية الفكرية والسلوكية والعلاقة بالآخر اديانا وفكرا‏.‏ وكلها قضايا تحتاج الي حوار شامل‏..‏ بعيدا عن مقدسات الدين التي ينبغي ان ننأي بها عن مستنقع السياسة وأساليبها‏.‏


*‏ ان الاخوان المسلمين جزء من الشعب المصري ولها كامل الحقوق فيه سياسيا وفكريا وانسانيا واذا كان المجتمع قد وفر لها هذه الحقوق في انتخابات حرة فان من واجب اعضائها ان يؤمنوا بحقوق الآخرين في الخلاف والاختلاف بل والمراجعة‏..‏ في السياسة ليس هناك طريق واحد للوصول وليست هناك مقدسات وممنوعات‏..‏ وعندما تختلط الأوراق وتدخل المقدسات والمحرمات في سراديب السياسة يفقد العقل قدرته علي التفكير‏..‏ ويفقد الحوار قدرته علي الاقناع‏..‏



أهلا بالاخوان المسلمين في الشارع السياسي سواء أقاموا حزبا أو ظلوا في مجلس الشعب واكتفوا بذلك المهم ان يمارسوا السياسة بأساليبها وآلياتها وألا يكون كل خلاف معهم معصية أو تجاوزا في حق الله والدين‏..‏ نريد الاخوان المسلمين القادرين علي احتواء كل أفراد المجتمع المسيحيين قبل المسلمين والعلمانيين بل والملحدين وان يدركوا انهم لايحتكرون الحقيقة ولايطالبون الناس بالطاعة العمياء أو التسليم المطلق وان تكون مطالبهم مطالب شعب لاجماعة وان يمارسوا لعبة السياسة بقوانينها ويبقي الدين للديان وحده‏..‏

ان مصر في حاجة الي هواء نقي وحرية حقيقية وحوار خلاق حتي تظل وطنا للجميع وسوف يقف الشعب المصري وراء كل فكر جاد يفتح له طريقا آمنا نحو مستقبل أفضل‏.‏



ويبقي الشعر

أنا صحوة الإنسان في ركب الخلود

فكيف ضاعت كل أمجادي سدي



يا أيها الزمن المشوه

لن تراني بعد هذا اليوم وجها جامدا

من كان مثلي لايموت وإن تغير حاله



وبدا عليه ما بدا

سيظل شئ في ضمير الكون يشعرني

بأن الصبح آت‏..‏ إن موعده غدا



ليعود فجر النيل من حيث ابتدا




إرسال تعليق

أحدث أقدم