هوامش حرة
هـل وصـلت الرسـائل؟
يكتبها: فاروق جـــويـــدة
انتهت الانتخابات البرلمانية وخرج من خرج.. وفاز من فاز ولم يبق أمامنا غير دخان كثيف يعكس ضراوة المعارك التي لم يتوقعها أحد والانتصارات التي حققها البعض والهزائم التي لحقت البعض الآخر.. ولا ينبغي أن نتوقف كثيرا عند الآثار التي خلفتها هذه المعركة من حيث المكاسب والخسائر ولكن الذي يستحق ان نتوقف عنده ونقرؤه بعناية أن هذه النتائج حملت رسائل كثيرة للحكومة والحزب الوطني وقد آن الأوان أن يقرأ المسئولون هذه الرسائل لأن نتائج الانتخابات لم تكن مجرد فوز وهزيمة ولكنها تحمل أكثر من دلالة تحتاج إلي مراجعة أمينة واذا فهمها الحزب الوطني وحكومته من هذا المنظور علي انها هزيمة عابرة فسوف يكون ذلك خطأ فادحا يتجاوز في خطورته وآثاره نتائج الانتخابات التي لم يتوقعها أحد.
لا أدري هل وصلت رسالة الشارع المصري إلي الدولة, وهل قرأتها وادركت ما فيها أم أن الأحداث ستمضي دون نقاش أو حوار أو تساؤل؟
كانت الرسالة الأولي من عمال مصر الذين أهملتهم الدولة وباعت مصانعهم وشردتهم في طوابير العاطلين.. أن الدولة وهي تنفذ برامج الخصخصة وتبيع القطاع العام اهملت تماما البعد الاجتماعي ووضعت عينها فقط علي تلك الملايين التي جمعتها وتلاشت في ميزانية الدولة وديونها واحتفالاتها ومهرجاناتها وسيارات المسئولين فيها. لم يكن غريبا أن معظم المناطق العمالية لم تنتخب ممثلي ومرشحي الحكومة, حدث هذا في المناطق الصناعية الكبري لأن الدولة تجاهلت تماما حساسية هذه المناطق.. لقد أضرب عمال مصانع شبين الكوم فترة طويلة ولم يسمعهم أحد.. وهذا ماحدث في مناطق أخري في المحلة.. وطنطا.. وكفر الزيات.. وكفر الدوار, ومناطق كثيرة في الصعيد, ولم يكن غريبا مثلا أن يخسر الحزب الوطني معظم مقاعده في محافظة المنوفية, وكانت هذه رسالة من عمال مصر للحكومة, التي لم تعد تعبأ كثيرا بهموم هذه الفئة من الناس.. لقد خرج العمال في الأقاليم والمناطق الصناعية يرفضون سياسة التجاهل والتهميش واللامبالاة.. وكان ردهم واضحا وصريحا.
جاءت الرسالة الثانية من الفلاحين الذين ذهبوا الي صناديق الانتخابات بكثافة غير مسبوقة ليؤكدوا رفضهم لسياسات الحزب الوطني في استخدام المبيدات المسرطنة.. وإصراره علي فرض تلك الوجوه التي وقفت وراء ذلك كله في ظل سياسات خاطئة, وكانت هناك قائمة اعتراضات تجسدت في رفع أسعار الأسمدة والكيماويات وفساد عمليات التسويق التعاوني وإهمال المحاصيل الرئيسية ومنها القطن وعدم سداد مستحقات المزارعين والشكوي من بنوك التسليف وقروضها المتوحشة.
ذهب الفلاحون بالملايين إلي صناديق الانتخابات ولم ينتخبوا ممثلي الحزب الوطني الذين لايشاهدون طلعتهم البهية إلا مع الانتخابات لأنهم غائبون تماما عن دوائرهم.. أعطي الفلاحون صوتهم لأناس آخرين يشاهدونهم كل يوم في كل مواقع العمل والخدمات.
جاءت الرسالة الثالثة من أقباط مصر الذين شاركوا بقوة في انتخاب حسني مبارك رئيسا للجمهورية.. وقاطعوا تماما الانتخابات النيابية لأن الحزب الوطني نسيهم أو ربما تناساهم وهو يختار مرشحيه.. وكان الرد هذا التجاهل التام من الأقباط للعملية الانتخابية حضورا وتصويتا ومشاركة.. ومن يراقب جداول الانتخابات فسوف يكتشف أن الحضور القبطي كان ضئيلا للغاية, وكان تعبيرا عن موقف رفض واحتجاج ضد حزب الأغلبية.
جاءت الرسالة الرابعة من المرأة المصرية التي لا تعرف حفلات المجلس القومي للمرأة ولا تشارك في مهرجانات الروتاري والليونز والديفليهات وعروض الأزياء والمعارض خرجت المرأة الكادحة من طوابير الجمعيات والملاجئ ودور المسنين والمواصلات المكدسة بلحوم البشر ورفضت أن تعطي صوتها لأضواء القاهرة وشاشاتها وحفلاتها وولائمها وصفحات المجتمع فيها.. كان حضور المرأة المصرية البعيدة عن الاضواء مؤثرا وفعالا في مناطق الريف والأحياء الفقيرة.. والمصانع.. والتجمعات العشوائية.
جاءت الرسالة الخامسة من طوابير العاطلين الذين نسيتهم الحكومة وحزبها الوطني حيث اكتفي كل مسئول بتعيين أبنائه وأقاربه وتأمين فرص الحياة الكريمة لهم.. حمل العاطلون قوائم الوظائف الحكومية والمسابقات التي شهدت تعيين أبناء الأكابر في كل المواقع الهامة كوثيقة أدانة لحزب الأغلبية ومعهم هؤلاء غير اللآئقين اجتماعيا وكان حظهم التجاهل والنسيان وذهبوا جميعا إلي صناديق الانتخاب وكان الرد واضحا وصريحا.
كانت طوابير العاطلين وهم يتدفقون علي اللجان الانتخابية يرفضون سياسات التجاهل والتحايل والإهمال صرخة عالية ضد واقع مرفوض.
كانت الرسالة السادسة من الملايين من أبناء الطبقة المتوسطة الذين تلاشت أحلامهم أمام طبقة صاعدة متوحشة من رجال الأعمال أخذت صدارة الحزب الوطني والمجتمع كله ولم تترك لفئة أخري فرصة واحدة ابتداء بالتلاعب في أسهم البورصة. واتهاء بالملايين التي هرب بها بعضهم إلي الخارج.. وقف أبناء الطبقة المتوسطة من المهنيين والموظفين يتساءلون ماذا فعل لنا الحزب الوطني؟ وماذا فعل فينا وكانت الإجابة الحاسمة في صناديق الانتخاب.
كانت الرسالة السابعة من ضحايا شركات توظيف الاموال الذين ضاعت أموالهم بين النصابين والأفاقين ودهاليز الحكومة ومات منهم من مات.. وبقي الأحياء منهم يريدون الثأر في أية لحظة من الحزب الوطني وحكومته التي استباحت حقوقهم وأضاعت مصادر رزقهم وحتي الموتي منهم خرجوا بأكفانهم وذهبوا إلي لجان الانتخابات يطالبون بالحق الضائع والأموال المنهوبة.
كانت الرسالة الثامنة من المثقفين المصريين الذين تجاهلهم الحزب الوطني, ولم يضع واحدا منهم في قوائمه أو حساباته.. بل إن الحزب نسي أن يضع للثقافة بندأ في برنامجه.. وإذا كانت فئات أخري قد ذهبت إلي لجان الانتخابات لكي تعطي صوتها لمنافسي الحزب الوطني فإن المثقفين المصريين كعادتهم جلسوا في بيوتهم ومارسوا دورهم التقليدي فيما يطلقون عليه السلبية الايجابية, وهذا مصطلح لا أفهمه.. ولكنهم حاربوا الإنتخابات بالصمت ورفضوا الحزب الوطني بالبقاء في البيوت.
وهذه عادتهم دائما لايظهرون إلا بعد أن تهدأ العواصف.. وعندما هدأت اكتشفوا حجم الكارثة.
كانت الرسالة التاسعة من شباب الجامعات الذين حرمتهم الدولة من التعبير عن ارائهم امام اساتذهم ومنعتهم من انتخاب عمداء كلياتهم وحاصرتهم من كل اتجاه بتقارير الأمن وهذه الوصاية المفروضة علي كل نشاط ثقافي أو فكري في رحاب الجامعة.. كان الرد الوحيد من هؤلاء الشباب أنهم ذهبوا إلي صناديق الانتخابات وعبروا عن رأيهم والغريب حقا أن الأغلبية منهم لم تنتخب مرشحي الحزب الوطني.. كانت طوابير الفتيات الجامعيات وشباب الأقاليم في لجان الانتخابات شيئا مذهلا نراه لأول مرة.
تبقي الرسالة العاشرة, وجاءت من الشارع المصري كله ضد هذه الوجوه التي بقيت تفرض نفسها علي واقعنا السياسي والإعلامي والإنساني سنوات طويلة وترفض أن ترحل.. ورغم هذا الرفض الجماعي فمازال الحزب الوطني يصر علي وجودها في الساحة.
وخلاصة القول عندي أن مصر ليست فقط مجموعة من رجال الأعمال يتصدورن مواقع النشاط الاقتصادي والعمل السياسي والحزبي, ويتاجرون في البورصة والأراضي والسلع التموينية والبنوك والسياحة والزراعة ويبيعون كل شيء في مصر الآن, أن مصر الشارع والناس والفقراء والبسطاء هي القضية الأولي للدولة وإن حماية هؤلاء من غول الأسعار والأمراض والسرطانات والكيماويات مسئولية الحكومة لأن الحكومات تعمل لخدمة الشعوب وليس لخدمة طبقة أو فئة أو جماعة.
ان مصر المسلمين والمسيحيين والمرأة والمثقفين والمهنيين والشباب والطبقة المتوسطة وكل هذه الفئات المهمشة التي تبحث عن دور ومكان يجب أن تجد صدي لمطالبها وأحلامها لدي الحكومة وأن واجب الحكومة أن تكون أكثر التصاقا بهموم الناس وقضاياهم.
إن تجاهل مناطق الأزمات في الريف المصري.. ومتاعب العمال في المناطق الصناعية والتجمعات العمالية لغم موقوت ربما عبر عن نفسه في الانتخابات الأخيرة.. ولكن لا أحد يعلم كيف يعبر عن سخطه غدا أو بعد غد.
إن حكومة الحزب الوطني لابد أن تنزل للشارع المصري, وتسمع الناس وتشاهد ما يجري وما يدور وتسعي لمواجهة الأزمات والمشاكل وما يشعر به المواطن المصري المطحون.. لأن مصر ليست فقط هذه القشرة القاهرية الجميلة التي تتلألأ علي شواطئ النيل العريق في الفنادق والافراح والحفلات, والليالي الملاح والمهرجانات واللقاءات في النوادي يجب أن تهبط حكومة الحزب الوطني من أبراجها العاجية وتشعر بآلام الناس ولا تكتفي بالقبضة الأمنية المحكمة لأن هناك قضايا كثيرة لايستطيع الأمن حسمها, إن قضايا الجوع, والفقر والحرمان والبطالة والبحث عن مأوي والخلل الاجتماعي وغياب منظومة القيم والجشع المادي الرهيب هذه ليست قضايا أمن ولكنها قضايا مجتمع يفتقد أبسط قوانين العدالة.
إن نتائج الانتخابات رسالة واضحة من المصريين إلي الدولة وهي رسالة صادقة وأمينة وموضوعية وأخشي ما أخشاه الا تصل الرسالة.. أو يتجاهلها أصحاب الشأن أو يقرأها البعض بصورة خاطئة ثم يلقيها في سلة المهملات. وتكون النتيجة أن تكون هناك رسائل أخري أسوأ وأعنف مما حدث في الانتخابات الأخيرة منذ سنوات طويلة والشارع المصري يبعث برسائل متعددة لحزبه وحكوماته ظهرت واضحة في انتخابات النقابات المهنية التي تساقطت واحدة بعد الآخري.. ولم يقرأ أحد.
وظهرت بعد ذلك في حركات احتجاجية صاخبة ولم يفهم أحد وظهرت أكثر في صحافة بالغة العنف في لغة الخطاب تجاوزت كل الحدود ولم يقرأ أحد وظهرت في ارتفاع معدلات الجريمة ونهب المال العام وسرقات البنوك.. ولم يعبأ أحد ثم كانت الانتخابات البرلمانية وما حدث فيها من نتائج وتجاوزات.. فإلي متي ننتظر؟.. ومتي تكون القراءة الصحيحة لكل ما يجري في الشارع المصري.. أرجو ألا تتأخر قراءة هذه الرسائل أكثر من هذا.. أو أن نقرأها بعد فوات الأوان.
ويبقي الشعر
لماذا أراك علي كل شيء
كأنك في الأرض كل البشر
كأنك درب بغير انتهاء
وأني خلقت لهذا السفر
إذا كنت أهرب منك إليك
فقولي بربك أين المفر؟