هوامش حرة
الجامعات.. والعمل السياسي
يكتبها: فاروق جـــويـــدة
في الجامعات يتعلم الشباب لغة الحوار.. وكيف يكون اختلاف الرأي.. والبحث عن الحقيقة.. وكيف تتصارع الأفكار بلا تجاوز.. وتختلف الآراء بلا اتهامات.. وفي الجامعات بيوت للعلم.. ومدارس للسياسة.. ومنارات للعقول.. هكذا كانت جامعات مصر في يوم من الأيام منذ أنارت جامعة القاهرة سماء العالم العربي مع مطلع القرن الماضي..
كان ميلاد هذه الجامعة زلزالا فكريا واجتماعيا وإنسانيا حرك المشاعر.. وفتح أبواب المعرفة.. وكان بداية ثورة جديدة في العقل العربي..
وعندما ننظر إلي الوراء قليلا ونشاهد البدايات الأولي للجامعات المصرية سوف نكتشف أن هذه الجامعات كانت أكثر تأثيرا منها الآن.. علي الرغم من أنها لم تكن تتجاوز في عددها أصابع اليد الواحدة.. بل إنها حتي عام1952 لم تكن أكثر من ثلاث جامعات هي: القاهرة والإسكندرية وعين شمس..
ومن خلال هذه الجامعات حدثت أكبر تغيرات في تاريخ العقل المصري والعربي طوال القرن الماضي.. كانت جامعة القاهرة علي سبيل المثال هي المنارة التي انطلقت منها مواكب التنوير الثقافي والحضاري.. وهي التي قدمت للساحة العربية أهم العقول التي شاركت في بناء النهضة الحديثة في هذه الدول.. وهي أيضا التي قدمت لمصر أبرز أبنائها في جميع التخصصات في الثقافة والهندسة والطب والعلوم ومختلف مجالات الإبداع.. وفي الجامعة تخرجت مواكب الموظفين الذين قامت عليهم الطبقة المتوسطة في مصر والتي ظلت لسنوات طويلة تمثل العمود الفقري لحركة المجتمع الإداري ثقافة وفكرا وقانونا ومشاركة في كل المجالات.. ولم تكن السياسة ـ بكل تياراتها ـ بعيدة عن رحاب الجامعة المصرية.. ففي هذه الجامعات تخرجت أجيال جديدة من الساسة الكبار.. ومنها كانت الثورات الكبري في تاريخ العقل المصري من خلال معارك ومحاورات وندوات ولقاءات واجتهادات مفكريها من الأساتذة الكبار ابتداء بلطفي السيد وطه حسين وانتهاء بأجيال جديدة مازالت تمارس هذا الدور حتي الآن..
كانت الجامعة هي أكبر مدرسة للتكوين السياسي الصحيح بعيدا عن صخب الأحزاب وصراعاتها.. بل إن هذه الأحزاب كانت تقترب من رحاب الجامعة علي استحياء شديد تقديرا لدورها وحرصا علي هيبتها ومكانتها في حياة الناس.. ومن يراجع التاريخ سوف يذكر صحوة الجامعة في أحداث كوبري عباس.. وفي مظاهرات الطلبة ضد نكسة67 وفي أحداث السبعينيات وانتفاضة الطبقة المتوسطة التي أطلق عليها في ذلك الوقت' انتفاضة الحرامية'.. كانت هذه هي الجامعة المصرية وكان هذا دورها ورسالتها في الفكر والثقافة.. وأيضا السياسة..
ولا أدري لماذا كان القرار التعسفي الظالم بمنع الأنشطة السياسية في رحاب الجامعات.. وعلي أي أساس قام هذا المنع.... وما هي مبرراته!.. إن الجامعة ليست فقط دار علم.. ولكنها في البداية دار ثقافة.. وما دامت هناك ثقافة.. لابد أن تكون هناك لغة للحوار.. وما دام الحوار في مكان ما فسوف توجد السياسة.. ولا مجال في عصرنا الراهن للهروب من السياسة لأنها تدخل في صميم مكونات إنسان هذا العصر.. وإذا كان من الممكن في زمان مضي أن يهرب الإنسان من أشباح السياسة.. فإنه اليوم لا يستطيع أن يفعل ذلك حتي ولو حاول..
ولهذا يبدو الآن غريبا جدا ونحن أمام صحوة جديدة في الشارع المصري أن تكون الجامعة بعيدة عن هذه الصحوة.. بل إنها تمثل ركنا أساسيا فيها إذا أردنا لها أن تكون صحوة مستنيرة واعية عاقلة تحكمها لغة الحوار الرفيع.. والخلاف الواعي.. إن ابتعاد الجامعة الآن عن النشاط السياسي خسارة كبيرة لجميع الأطراف.. إن في ذلك خسارة لأجيال جديدة من حقها أن تتعلم وأن تمارس وأن تعبر عن رأيها.. وأيضا خسارة للجامعات نفسها التي حصرت دورها في مهام تعليمية لا أعتقد أنها تواكب لغة العصر وروحه كما ينبغي.. كما أنها خسارة للمجتمع الذي يحرم الملايين من أبنائه من فرصهم في التعبير عن رأيهم وأن يتعلموا لغة الحوار وكيف يكون صراع الفكر وخلاف الرؤي.. وفي ذلك أيضا خسارة للأحزاب السياسية الشرعية التي نحرمها من حقها في جذب اهتمامات الشباب واحتواء أحلامهم..
لقد أخطأت الدولة في يوم من الأيام عندما حولت الجامعات إلي ساحة لصراعات أيديولوجية بين اليمين واليسار.. والمتدينين والعلمانيين.. ودفعنا في سبيل ذلك ثمنا باهظا.. وليس من العدل أن تلجأ الدولة إلي النقيض فتمنع العمل السياسي في الجامعات تماما..
لقد كان من الخطأ أن توزع الدولة' المطاوي' علي طلاب الجامعات في يوم من الأيام وتنتهك براءة عقولهم وطهارة مواقفهم.. ثم كان الخطأ الأكبر بعد ذلك أن تمنعهم من التعبير عن آرائهم وأفكارهم وتحرمهم من فرصة التكوين السياسي السليم داخل رحاب الجامعة بقرار غريب يمنع النشاط السياسي في الجامعات..
لقد تخلت الجامعة تماما عن دورها في التربية السياسية أمام هذا القرار.. ولم يقتصر ذلك علي الرقابة الأمنية علي الأنشطة السياسية داخل الجامعات بل تحول إلي إجراءات قمعية ضد الأنشطة الطلابية في إقامة الندوات أو الحفلات أو التعبير عن الرأي.. والأخطر من ذلك هو إلغاء انتخابات عمداء الكليات.. واختيارهم.. وتعيين من تراهم الدولة الأصلح والأفضل حسب ما تراه الأجهزة المسئولة.. وكان إلغاء انتخابات العمداء صورة من صور الأساليب القمعية في إدارة شئون الجامعات.. وما بين الرقابة الأمنية.. والرقابة الإدارية ممثلة في عمداء الكليات.. تخرجت أجيال جديدة لم تمارس الحوار بصورته الصحيحة ولم تر السياسة في إطارها الفكري الراقي.. لأن الحوار ممنوع.. ولا أدري علي أي أساس ومن أي منطلق نضع كل هذه الأعباء علي رجال الأمن ابتداء باختيار عمداء الكليات ورؤساء الاتحادات وانتهاء بقبول أو رفض طلاب المدن الجامعية.. إن في ذلك إهدارا لطاقات أجهزة مسئوليتها حماية أمن الوطن..
إن ما يحدث في انتخابات اتحادات طلاب الجامعات صورة مصغرة للقهر الجماعي الذي يبدأ بتعيين العميد وينتهي باختيار رؤساء الاتحادات الطلابية تحت ضغوط أمنية مكثفة.. بل إن هناك حالات صارخة لإبعاد بعض الطلاب لأسباب سياسية وأمنية عن كل مجالات العمل داخل الجامعات.. بما في تلك الأعمال الخيرية وخدمة الطلاب.. وأمام هذا تحولت الجامعات إلي ثكنات يقضي فيها الطالب سنوات دراسته دون أن يبدي رأيا أو يعبر عن وجهة نظر.. إن الأغرب من ذلك أن الجامعات تقيم حفلات التهريج والإسفاف وتلغي ندوات الفكر والثقافة تحت شعار' أن هناك مبررات أمنية تتطلب ذلك'.. والغريب في الأمر أن الأحزاب المصرية ـ بما فيها الحزب الحاكم ـ غائبة تماما عن الجامعات في الوقت الذي نطالب فيه بتوفير المناخ المناسب لظهور رموز سياسية وفكرية جديدة.. وإيجاد أجيال قادرة علي ممارسة العمل السياسي بروح جديدة تقوم علي الحوار الواعي..
إن حرمان الجامعات المصرية من العمل السياسي خطأ كبير ينبغي أن نصحح مساره..
إن الجامعات هي التي ستعلم أبناءنا كيف يكون الخلاف في الرأي.. وهي التي ستفتح أمامهم آفاق المعرفة السياسية من خلال ثقافة سياسية واعية وجادة تقوم علي الوضوح والشفافية وصدق الانتماء..
والجامعات هي التي سيتعلم فيها أبناؤنا كيف يمارسون حقهم الانتخابي ورغبتهم في التغيير من خلال قنوات مشروعة..
إن أخطر ما يهدد الجامعات الآن أن نحرم شبابها من مبدأ خطير هو' تكافؤ الفرص' من خلال تقارير أمنية تدين هذا وتنصف ذاك.. ويتم علي أساسها تحديد مستقبلهم.. بل انضمامهم إلي المدن الجامعية.. لقد حرمت بعض الجامعات أعدادا كبيرة من الطلاب المتفوقين من دخول المدن الجامعية لأسباب أمنية.. وهذا مخالف لكل التقاليد الجامعية وحقوق المواطنة.. إن مثل هذه التقارير تتدخل بصورة سافرة في تعيين أوائل الدفعات كمعيدين.. وفي ترقيات الأساتذة.. وفي انتخابات اتحادات الطلاب.. وبدلا من أن تصبح الجامعة مدرسة سياسية راقية تحولت إلي ثكنات أمنية يحكمها الحرس الجامعي!!..
إن مصر تعيش الآن مناخا سياسيا جديدا في ظل أحزاب ومؤسسات شعبية ومدنية.. ولا يعقل أن تظل الجامعة بعيدة عن هذه المتغيرات.. لأن معني ذلك أننا نحكم علي كل الأجيال التي تتخرج فيها بالموت البطيء.. إن الجامعات هي الأقدر علي إنشاء كوادر سياسية جديدة تنضم إلي مواكب الأحزاب.. وهي الأقدر علي توفير مناخ مستنير للحوار البناء وتعميق مشاعر الولاء والانتماء للوطن.. وهذا هو دور الجامعات في كل بلاد الدنيا إذا كنا بالفعل جادين في الوصول إلي واقع سياسي أفضل..
إن نقطة البداية أن نفتح أبواب الجامعات للفكر والرأي والحوار..
ويبقي الشعر
قد يصبح العمر أحلاما نطاردها
تجري ونجري وتدمينا ولا نصل
إن ضاق مني زماني لن أعاتبه
هل يعشق السفح من أحلامه الجبل
ضيعت عمري أغني الحب في وطن
شيئان ماتا عليه الحب والأمل
ضيعت عمري أبيع الحلم في زمن
شيئان عاشا عليه الزيف والدجل
كم راودتني بحار البعد في خجل
لا أستطيع بعادا كيف أحتمل
مازلت طيرا يغني الحب في أمل
قد يمنح الحلم ما لا يمنح الأجل