البنوك‏..‏ بين الدمج والخصخصة

هوامش حرة



البنوك‏..‏ بين الدمج والخصخصة


يكتبها‏:‏ فاروق جويدة






حاولت أن أفهم قرار الحكومة بدمج اثنين من أكبر البنوك المصرية في بنك واحد‏..‏ هما بنك القاهرة وبنك مصر‏..‏ وأعترف أنني لم أفهم أسباب ذلك حتي الآن‏..‏ خاصة مع السرعة الشديدة في إصدار القرار وتنفيذه خلال أيام قليلة‏..‏ وفي أحيان كثيرة نجد أنفسنا أمام قرارات غريبة‏..‏ بل أقول مريبة‏..‏ تصدر بلا مقدمات وكأنها ألعاب سحرية‏..‏ والأغرب من ذلك أن القرارات تصدر الآن دون النظر إلي أي طرف من الأطراف‏..‏ سواء كانوا مودعين أو عاملين أو عملاء‏..‏ أو حتي هؤلاء الهاربين بأموال البنوك‏..‏






وهذا يخالف كل تقاليد العمل الإداري والنشاط المصرفي‏..‏ بل هو مخالفة قانونية بكل المقاييس‏..‏ فلا الحكومة سألت المودعين‏..‏ ولا استشارت العاملين في هذه البنوك‏..‏ ولا قدرت نتائج ذلك كله‏..‏ إننا نصدر القرارات الآن وكأن كل جهاز أو مؤسسة يعيش في جزيرة معزولة‏..‏ وبمعني آخر أنا نتصرف في المال العام بحرية تجاوزت كل الخطوط الحمراء وكأننا نتصرف في عزب خاصة‏..‏






لا أدري لماذا قررت الحكومة والبنك المركزي دمج اثنين من أكبر البنوك في مصر في بنك واحد‏..‏ لقد استقال أو أقيل رئيس أحد البنكين وهو السيد أحمد البردعي رئيس بنك القاهرة‏..‏ وهذا أمر عادي يحدث كل يوم أن يستقيل مسئول من منصبه أو يقال‏..‏ والحل بسيط‏..‏ مسئول آخر يجيء ويتولي المسئولية وتمضي السفينة‏..‏ ولكن فجأة صدر قرار ضم بنك القاهرة إلي بنك مصر‏..‏ ثم صدر قرار آخر وبنفس السرعة بدمج البنكين في بنك واحد‏..‏ وفي سطور قليلة نشرتها الصحف أصبحنا أمام واقع‏..‏ أن هناك بنكا كبيرا اختفي من الوجود فجأة وأصبح جزءا من بنك آخر‏..‏ ولا شك في أن هذا الدمج يطرح أمامنا أكثر من سؤال‏:‏






أولا‏:‏ أن بنك القاهرة هو أكثر البنوك المتورطة في قضايا وديون مع رجال الأعمال الهاربين أو المقيمين أو المتعثرين‏..‏ فهل تم دمجه مع بنك آخر لإخفاء معالم الجريمة‏..‏ وهل يضع قرار الدمج نهاية لهذه المهزلة علي أساس أنها ستكون ديونا معدومة يتحملها البنكان بدلا من بنك واحد ثم نغلق ملف هذه الفضائح حتي لو كان ذلك علي حساب أموال الشعب‏..‏ فماذا عن مستقبل هذه الديون وهي تتجاوز المليارات‏!..‏ لقد تكرر نفس الموقف مع بنك مصر إكستريور عندما تم دمجه في بنك مصر وكان هو أيضا من أكثر البنوك تورطا في القروض الضائعة لرجال الأعمال‏..‏






ثانيا‏:‏ ما هو موقف ودائع المواطنين في هذين البنكين‏..‏ وكيف سيتم دمج الفروع‏..‏ والأصول‏..‏ والعاملين هنا وهناك‏..‏ إننا أمام آلاف الملايين من الودائع‏..‏ ومئات الملايين من الديون‏..‏ وعشرات الفروع في المحافظات والمدن الكبري والدول الأجنبية‏..‏ وأمام معاملات محلية‏..‏ وإقليمية‏..‏ ودولية‏..‏ ووكلاء‏..‏ ومراسلين أجانب وعرب ومصريين‏..‏ وأمام آلاف الوظائف من المديرين والمسئولين وأصحاب القرار‏..‏ فكيف تم إدماج ذلك كله في أسبوع واحد‏..‏ بل في أيام قليلة‏..‏ ولماذا هذه السرعة‏..‏ وكيف جاء القرار بين يوم وليلة‏..‏ ولماذا انضم بنك القاهرة إلي بنك مصر‏..‏ ولماذا لم يدمج مع البنك الأهلي أو غيره‏..‏ لا شك في أن وراء هذا القرار المتسرع فلسفة ما‏..‏ وقد تكون هناك أسباب لا يعرفها أحد وكان ينبغي أن نوضح للمواطنين كل هذه الجوانب لأن الحكومة لا تدمج ورشة أو محل كشري‏..‏ ولا تنقل مجموعة من الموظفين‏..‏ أو تقوم بتحويل مبلغ من المال من بنك لحساب بنك آخر‏..‏ إنها تنقل بنكا كاملا بأمواله وأصوله وموظفيه وفروعه في ليلة واحدة‏..‏






إن عامل السرعة هنا يحمل أكثر من سؤال‏..‏ وكذلك أموال المواطنين وقروض وديون الهاربين‏..‏ وقبل هذا كله‏..‏ هل هي مقدمة لبيع البنوك بحيث يكون دمج البنكين في بنك واحد وسيلة أفضل كصفقة واحدة‏..‏






لقد أعلن السيد فاروق العقدة محافظ البنك المركزي منذ شهور قليلة وفي منتدي جمعية المصرفيين العرب في أمريكا أن مصر تستعد الآن لخصخصة بنوك القطاع العام‏..‏ ورغم أن د‏.‏ العقدة كذب هذه التصريحات في ذلك الوقت‏..‏ فقد كان أمرا غريبا أن يعلنها لأول مرة خارج مصر وفي أمريكا بالذات‏..‏ ولكن ما يجري في الكواليس الآن وما أعلنه صراحة د‏.‏ أحمد نظيف رئيس الوزراء يؤكد أن النية تتجه نحو بيع بنوك القطاع العام المصرية‏..‏






إننا نعرف أن هذا التوجه جاء بناء علي طلب من صندوق النقد والبنك الدوليين‏..‏ وهناك ربط غريب ومريب بين مساعدات هذه المؤسسات المالية وبين قرار مصر بخصخصة البنوك‏..‏ لقد خدع صندوق النقد والبنك الدوليين د‏.‏ عاطف عبيد رئيس الحكومة السابق في مؤتمر الدول المانحة في شرم الشيخ عندما وعد البنك بتقديم عشرة بلايين دولار للحكومة المصرية‏..‏ ولم تحصل مصر إلا علي مليار واحد فقط‏..‏ ورغم ذلك تشجعت الحكومة في ذلك الوقت واتخذت مجموعة قرارات كان أخطرها تعويم الجنيه المصري ليصل سعره إلي سبعة جنيهات للدولار الواحد‏..‏ وما زالت توابع هذا الزلزال تهز أركان الاقتصاد المصري حتي الآن‏..‏ وعلي الرغم من تراجع سعر الدولار فقد بقي في نطاق الجنيهات الستة إلا قليلا‏..‏






وإذا كان قرار دمج بنك مصر في بنك القاهرة بداية سلسلة لعمليات دمج أخري تمهيدا لبيع هذه البنوك‏..‏ فينبغي ألا يتم ذلك بالسرعة نفسها التي تم بها دمج بنك القاهرة‏..‏ إن الحكومة ستطرح قريبا بعض البنوك للبيع‏..‏ والسؤال الذي ينبغي أن نجيب عنه‏:‏ هل هناك قوي اقتصادية وشرائية قادرة علي شراء هذا الحجم الضخم من البنوك‏..‏ وهل هناك جهة مصرية قادرة علي شراء بنك في حجم البنك الأهلي أو بنك مصر‏..‏ وهل من الممكن أن نعرض مثل هذه المشروعات الضخمة في فترة زمنية قصيرة‏..‏ وهل وضعت الحكومة المصرية برامج مدروسة لذلك‏..‏ أم أننا سنترك العملية كلها لمجموعة من السماسرة الدوليين يتاجرون فينا ويبيعون أصول الشعب بأبخس الأسعار لكل من هب ودب‏..‏ وإذا كانت عمليات البيع أو الدمج ستتم بالأسلوب نفسه الذي اتبعته الحكومة في دمج بنك القاهرة مع بنك مصر فنحن أمام قرارات لا تحدث في أي مكان في العالم‏..‏ لأنها اتسمت بالسرعة وعدم الدراسة‏..‏ وأخشي ما نخشاه أن تدخل عمليات بيع البنوك في هذا النطاق وتتم بالطريقة نفسها‏..‏






إن خصخصة البنوك المصرية وبيعها قضية في غاية الحساسية‏..‏ ولهذا ينبغي أن نتوقف عند مجموعة نقاط‏:‏






أولا‏:‏ أن ذلك ينبغي ألا يخضع لرغبات مؤسسات أجنبية حتي ولو كانت صندوق النقد أو البنك الدوليين‏..‏ لأن هذه المؤسسات تحمل أغراضا سياسية‏..‏ ولا تعنيها قضايا الاستقرار والأمن والعدالة الاجتماعية‏..‏ ولهذا يجب أن يبقي قرار بيع البنوك أو الإبقاء عليها قرارا مصريا مائة في المائة‏..‏ ويكفي ما حدث من كوارث للآخرين‏..‏






ثانيا‏:‏ أن بيع البنوك المصرية يجب أن يخضع لدراسة كاملة تشارك فيها أطراف كثيرة حكومية وشعبية واقتصادية وقانونية‏..‏ بحيث يتم ذلك علي مراحل زمنية تتناسب مع ضخامة وحجم المشروعات المطروحة للبيع حتي لا نجد أنفسنا مشاعا في يد مجموعة من السماسرة والمغامرين‏..‏






ثالثا‏:‏ تجب دراسة الآثار الجانبية التي ستترتب علي بيع هذه البنوك‏..‏ خاصة ما يتعلق بالعمالة والودائع والأصول‏..‏ وحتي لا نضيف إلي طوابير العاطلين آلافا جديدة‏..‏ إن البنوك المصرية تضم كفاءات نادرة‏..‏ ومن الظلم لها ولنا وللمستقبل أن نجدها حائرة في الشوارع بلا عمل‏..‏ هذا بجانب الحرص الشديد علي أموال المودعين والأصول التي تتبع هذه البنوك قبل نقل الملكية إلي أطراف أخري جديدة‏..‏






رابعا‏:‏ ينبغي عدم التفكير في بيع مؤسسة اقتصادية‏..‏ أيا كان نشاطها‏..‏ وهي محملة بالأعباء والديون والمشكلات‏..‏ ولهذا يجب أن تحسم الحكومة قبل أن تبدأ في بيع بنك واحد مشكلات المتعثرين والهاربين من رجال الأعمال لإعادة أموال البنوك بجانب الوصول إلي حل حول مشكلة ديون القطاع العام‏..‏ لأن بيع البنوك في ظل هذه الأعباء سيكون مخاطره كبيرة‏..‏






خامسا‏:‏ أن بيع مثل هذه الأصول الضخمة يجب أن يبقي سرا حتي تنتهي الحكومة والجهات المسئولة وعلي رأسها البنك المركزي من دراسة كل جوانب عملية البيع وشروطه ووقته‏..‏






سادسا‏:‏ يجب أن نكون علي وعي كامل بأن هناك أطرافا كثيرة ترصد الاقتصاد المصري وتسعي إلي السيطرة علي مقدرات هذا الشعب‏..‏ ولن تكون أمامها فرصة أفضل من الاستيلاء علي بنوك مصر مهما كان الثمن‏..‏






تبقي بعد ذلك نقطة أخيرة تحاول الحكومة والبنك المركزي معا أن يغلقا ملفاتها‏..‏ وهي قروض الهاربين والمتعثرين ورجال الأعمال‏..‏ لقد فتحت الحكومة صفحة جديدة مع رجال الأعمال عندما أقرت مبدأ التصالح وإسقاط الأحكام القضائية لمن يقوم بتسوية مستحقات البنوك‏..‏ وقامت باستبدال جميع القيادات المصرفية‏..‏ وغيرت القانون‏..‏ وغيرت تبعية البنك المركزي‏..‏ وعلي الرغم من كل هذه الإجراءات فلم تستطع أن تغلق هذا الملف الخطير‏..‏ فلا الأموال عادت‏..‏ ولا الشعب عرف حقيقة هذه الأموال الضائعة‏..‏ والأمانة والمسئولية تقتضيان إغلاق هذا الملف علي أسس سليمة من الناحيتين الاقتصادية والقانونية‏..‏ لأن هذه الأموال أموال الشعب‏..‏ وقبل أن تدمج الحكومة البنوك في بعضها أو تفكر في بيعها يجب أن تقول لنا صراحة حجم هذه المأساة‏..‏ لأن كل هذه الإجراءات مهما كانت سريعة لن تخفي معالم الجريمة‏..‏






ويبقي الشعر










والآن جئتك خائفا ..................... نفس الوجوه تعود مثل السوس






تنخر في عظام النيل ................. نفس الوجوه تطل من خلف النوافذ






تنعق الغربان‏..‏ يرتفع العويل ...... نفس الوجوه علي الموائد تأكل الجسد النحيل






نفس الوجوه الآن تقتحم العيون ... كأنها الكابوس في حلم ثقيل






مادامت الأشباح تسكر من دماء النيل .... لا تسأليني الآن عن زمن جميل






إرسال تعليق

أحدث أقدم