هوامش حرة
رسالتان.. حول العمل السياسي في الجامعات
يكتبها: فاروق جـــويـــدة
منذ أسبوعين تحدثت عن غياب العمل السياسي داخل الجامعات المصرية.. وقلت إن الجامعة كانت دائما البيت الآمن الذي يحتوي كل الأفكار ويناقش كل الآراء.. ومنذ هدأت واستكانت ودخلت في حالة من الصمت العميق تخلت عن دورها ورسالتها في بناء العقول..
إن الأجيال الجديدة التي تتخرج في جامعاتنا الآن تفتقد الرغبة في المشاركة وتخاف من الحوار وتهرب من المواجهة.. إن هذه السلبية نتيجة طبيعية لما يجري في الجامعات.. فالعمداء بالتعيين.. والانتخابات الطلابية محاصرة من كل اتجاه.. والرغبة في الحوار تكبلها دائما ممنوعات كثيرة تبدأ بالأمن وتنتهي بالوصاية الفكرية التي يري البعض أنها حق مكتسب.. ولهذا أصبح الحديث عن العمل السياسي في الجامعات المصرية حلما مؤجلا مثل أحلام كثيرة لا أجد مبررا واحدا لتأجيلها..
وحول هذه القضية وصلتني رسائل كثيرة اخترت منها رسالتين.. الأولي للصديق د. عبد الله التطاوي نائب رئيس جامعة القاهرة.. والثانية للدكتور محمد سكران بكلية التربية بالفيوم..
يقول د. التطاوي في رسالته:
أثار الأستاذ/ فاروق جويدة فيما نشرته أهرام الجمعة2005/10/28 باب' هوامش حرة' ما يعكس طموح الشاعر الكاتب في تحويل الجامعات إلي منارة سياسية متخذا المثل من دورها القديم والوسيط مقارنا بدورها المرحلي متخذا شاهده من جامعة القاهرة التي تخرج فيها..
وتشارك قيادة الجامعة الكاتب همومه الوطنية والثقافية بقدر ما تشاركه الرأي حول طبيعة الدور المنوط بها في قراءة الواقع قراءة علمية وتصور رؤي المستقبل تصورا منهجيا وهو ما نهض به بعض علماء جامعة القاهرة حين قدموا رؤيتها الاستراتيجية للقيادة السياسية حول منظومة التحديث الكبري لمصر في كل مجالات حياتها مع مطلع الألفية الجديدة( في ثلاثة أجزاء) وكان قوام الموسوعة ومرجعيتها حرية الفكر والاجتهاد إزاء الصالح الوطني..
فليطمئن كاتبنا إلي أن باب المشاركة السياسية للجامعات مفتوح علي مصراعيه وكذلك مشروع التثقيف السياسي لطلابها منذ أنشئ الموسم الثقافي الفني بجامعة القاهرة ومضي عليه أحد عشر عاما حتي الآن التقي خلالها طلاب الجامعة مع كثير من رموز الفكر والفن والإبداع إلي جانب لقاءات الطلاب مع كبار السياسيين ووزراء التعليم العالي والإعلام والشباب والثقافة والتنمية الإدارية والاتصالات وكذا كانت لقاءاتهم المفتوحة مع كبار علماء الدين والفلسفة والاجتماع والتاريخ وغيرها حيث تطول القوائم لتقارب خمسين اسما خلال العامين الأخيرين فقط مما يعني أن ثمة ثروة ثقافية وفنية يتلقاها شباب الجامعات المصرية تختلف ـ كثيرا ـ عن جيلنا في السبعينيات والذي لم يكن يري رئيس جامعته أو الوزير أو الشخصيات العامة إلا عبر وسائل الإعلام بينما الطالب الآن يجالسهم ويحاورهم ويداخلهم ويناقشهم ويبثهم همومه ومشكلاته..
لعل نوعية الطلاب اختلفت كثيرا بقدر ما اختلفت صورة الجامعة التي تعطي وتشجع وتدعم وتوجه وتفتح مجالات الحوار دون خطوط حمراء ولكن الحقيقة المؤلمة أن أبناءها يختلفون كثيرا عن جيل آبائهم الذين عاشوا مرحلة الوجد القومي والمشكلات الوطنية بكل وجدانهم بعد نكسة67 أو انتصار73 وتداعيات المرحلتين سلبا وإيجابا وجاءتهم مرحلة التحول الديمقراطي الجديد.. فهل آن لهم استثمارها بدلا من إلقاء اللوم علي الجامعات التي يظل من واجبها استنهاض الطلاب ودعوتهم من خلال الأقلام الجادة إلي معايشة ثقافة المشاركة بعيدا عن السلبية والانهزامية والهروبية التي يؤثرها الكثيرون منهم دون مبرر سوي القصور في فهم أصول الحياة الجامعية كما رآها الجيل الماضي بكل شفافية وشجاعة علي الرغم من حجم معاناته بكل صورها..
ويظل الفرق واضحا بين التثقيف السياسي للطلاب ضمن منظومة الفكر الجامعي الأصيل وما يراه البعض أحيانا من إمكان اقتحام الأحزاب للحياة الجامعية وكأن السياسة لا تعني سوي الحزبية فالمسافة بعيدة بين الأمرين وليست جامعاتنا بدعا بين جامعات العالم في هذا السياق ولا هي كذلك في تاريخها العريق لاسيما إذا تصورنا تحولات مستوي الفكر لدي شباب المرحلة أو تحول الجامعة إلي معترك للأحزاب والإثارة والتحريض والصراع أو استغلال العقل الجامعي فيما لا يفيد الوطن ولا يقف عند حدود الصالح العام للأمة فمن حق شباب الجامعة أن يكون مثقفا سياسيا أو غير سياسي ومن شاء الانتماء لأي حزب فلا حجر عليه فللأحزاب مقارها ومنتدياتها وحواراتها ومواقعها وللطالب أن يحدد لنفسه موقعا علي خريطة الأطياف السياسية شريطة ألا يتحول الأمر إلي انقسامات داخل الحرم الجامعي أو خصومات مع زملائه ورفاقه وربما أساتذته في سياق منظومة التعليم والتثقيف بكل رحابتها واتساعها..
وقد يبقي من حقنا أن نشارك الكاتب رأيه في انتخاب القيادات الجامعية شريطة ألا تتحول إلي شللية فاسدة أو وعود ومجاملات تجني علي قواعد العمل ولوائحه وقوانينه وعندئذ نعود إلي العصر الذهبي الذي رفض فيه بعض الأساتذة الكبار منصب العمادة أما التزاحم والهرولة خلف المناصب من باب الوجاهة أو ترسيخ الفهم الخاطئ لمهامها ومشكلاتها وأعبائها فهذا هو الخطأ الأكبر في مؤشرات الفساد الانتخابي فحسب..
أما منح الدرجات العلمية والترقيات في الجامعات فلا علاقة لها بالمشكلات الأمنية ولو أن عضوا من اللجان العلمية يمتلك نصا أو موقفا يمنع أستاذا من الترقية لموقفه السياسي فمن حقه أن يفصح عن ذلك من باب الأمانة وما كان لأساتذة اللجان أن يقبلوا ضغوطا من أية جهة سوي الضمير العلمي..
أما الرسالة الثانية فيقول فيها د. محمد سكران:
قرأت ـ وباهتمام شديد ـ طرحكم العميق حول' الجامعات.. والعمل السياسي' ويسعدني المشاركة في الحوار خاصة أنني من المهتمين بالشأن الطلابي والعمل الجامعي بصفة عامة ابتداء من أطروحتي للحصول علي دكتوراه الفلسفة في التربية(1983) حول' الحرية الأكاديمية للأستاذ الجامعي' ثم ما قمت به من دراسات بعد ذلك تتعلق بالحرية الأكاديمية للطالب الجامعي وموقف طلاب الجامعة من بعض القضايا المعاصرة وغيرها ويتلخص ما أود طرحه في الآتي:
1 ـ أنه علي هامش الطرح أشير إلي أن مسألة تعيين القيادات الجامعية وعلي وجه الخصوص' عميد الكلية' لم تعرفها الجامعات إلا في ظل عهود القهر والحد من الحريات داخل وخارج الجامعة فمنذ صدور أول قانون للجامعة المصرية بصفتها جامعة حكومية عام1923 لم يكن هناك ما يسمي' التعيين' واستمر الوضع هكذا حتي أواخر أربعينيات القرن العشرين فقد حدثت تحولات وتطورات سياسية أدت إلي وضع العديد من القيود علي الحريات وأصبح للدولة العديد من الاختصاصات التي لم تعرفها الجامعة من قبل وتم إلغاء مبدأ الانتخاب والأخذ بمبدأ' التعيين' الذي استمر طوال فترة الحكم الثوري ولكن جاء القانون1972 ومعه تمت إعادة الانتخاب ولكن لثلاثة مرشحين يختار منهم رئيس الجامعة واحدا حتي ولو كان الأقل صوتا ورضي الجامعيون بهذا الانتخاب المثير للعديد من التساؤلات وفي ثمانينيات القرن العشرين عاد الأخذ بمبدأ التعيين الذي يعد من بقايا العصور الوسطي وحكم الملوك والأباطرة وسمة من سمات الحكم الديكتاتوري والشمولي لما ينطوي عليه من أخطار زاد منها تدخل الأجهزة الأمنية والرقابية في التعيينات الجامعية..
2 ـ أما بخصوص العمل السياسي لطلاب الجامعة ـ وهو بيت القصيد ـ فغاية ما يمكن تسجيله هنا أن الطلاب عبر تاريخهم الطويل كانوا وقود الحركات الوطنية للمطالبة بالاستقلال والإصلاح وسجلهم النضالي حافل بعشرات المواقف والشهداء..
ومن المثير للانتباه أنه بعد نكسة1967 والبلاد كلها في حالة يرثي لها وكان من حق النظام وقتها إصدار كل ما من شأنه الحفاظ علي استقرار البلاد نقول في ظل هذه الظروف استطاع طلاب الجامعة القيام بالمظاهرات عام1968 احتجاجا علي الأحكام الصادرة بشأن من تسببوا في النكسة بل وفي السنة المشار إليها صدرت اللائحة الطلابية لتتضمن' حق الطلاب في العمل السياسي' ولكن المفاجأة أنه بعد العبور العظيم وإعلان سياسة الانفتاح الاقتصادي والسياسي وديمقراطية' الأنياب' وإحساس الرأي العام يومها بأن هناك انفتاحا فقام الطلاب بالمظاهرات احتجاجا علي غلاء الأسعار عام1977 التي أطلق عليها المرحوم السادات' انتفاضة الحرامية' في حين أنها كانت تشكل ـ وبحق ـ انتفاضة شعبية ضد الفساد الذي بدأ يستشري في المجتمع.. وعلي أي حال كانت المحصلة صدور' اللائحة الطلابية' المعروفة بلائحة1979 التي أدت إلي تجريد وحرمان الطلاب من كل حقوقهم في العمل السياسي بل وتعاملت معهم السلطات السياسية والجامعية علي أنهم' شوية عيال' وبالتالي لابد أن تكون هناك وصاية عليهم من قبل الأساتذة وأصبح اتحاد الطلاب مجرد ديكور ولا يستطيع الطلاب اتخاذ أي قرار إلا بعد موافقة هؤلاء الأوصياء وما تزال هذه اللائحة حتي كتابة هذه السطور وإن كان هناك توجه الآن لإصدار لائحة جديدة ونأمل في أن تجد طريقها إلي النور وتتخلص من عيوب تلك اللائحة المقيدة لكل عمل طلابي وتكون علي مستوي ما هو مأمول ومنشود من إصلاح وتطوير سياسي..
***********************
وتبقي لي في النهاية كلمة.. إنني عندما أتحدث عن العمل السياسي في الجامعات فأنا لا أقصد إطلاقا زيارات السادة الوزراء.. لأنهم موجودون في كل مكان وعلي كل الشاشات وفي كل الجرائد ونسمعهم عشرات المرات كل يوم.. وليس كل وزير بالضرورة يفهم في السياسة لأن لدينا وزراء كثيرين علاقتهم بالسياسة محدودة للغاية.. وإنما أنا أتحدث عن العمل السياسي بكل تياراته ولا أقصد بالطبع الحزب الوطني الحاكم.. ولهذا ينبغي أن يكون الحوار داخل الجامعات شاملا معبرا عن كل وجهات النظر.. وليس فقط رأي حزب الأغلبية الذي يمثله المسئولون ومنهم الوزراء..
الجانب الثاني.. أن حرمان الجامعة من العمل السياسي جناية علي المستقبل.. وفي أشد عصور ما نسميه بالحكم الشمولي خرجت مظاهرات68 ترفض الهزيمة.. وخرجت مظاهرات77 في بداية مسلسل الانفتاح الاقتصادي.. ونهب ثروات الوطن.. ولا شك في أن البحث عن ديمقراطية حقيقية لا يمكن أن يتحقق في ظل الأحكام العرفية التي تحكم العمل السياسي في الجامعات..
الجانب الثالث.. أن مبدأ التعيين مرفوض تماما ابتداء بتعيين عمداء الكليات.. وانتهاء باتحادات الطلاب.. لأن هذه الظواهر تمثل دروسا أولي في الفكر والسلوك نتمني أن نتخلص منها يوما ما.. ومن هنا فإن العمل السياسي مطلب ملح الآن إذا كنا بالفعل جادين في الوصول إلي صيغة مناسبة للديمقراطية..