هوامش حرة
الانتخابات البرلمانية.. والأغلبية الصامتة
يكتبها: فاروق جـــويـــدة
لا أدري لماذا اتسعت تلك المساحة التي تشغلها الأغلبية الصامتة في الشارع السياسي المصري.. وقد ظهر ذلك بوضوح شديد في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في وقت واحد.. حيث ظلت نسبة المشاركة في الانتخابات تدور في منطقة العشرين في المائة.. إن ذلك يعني أن80% من الشارع المصري قد نأوا بأنفسهم عن المشاركة في العمل السياسي.. والغريب أن يحدث ذلك في وقت تحاول فيه الدولة أن تفتح الأبواب وأن تسعي إلي إيجاد مناخ سياسي أكثر حرية وأكثر انطلاقا نحو مستقبل يمكن أن تعيش فيه مصر تجربة ديمقراطية حقيقية.. ولكن الأحداث خيبت الآمال واتضحت الصورة أمامنا.. فقد غابت فئات كثيرة عن المشاركة بينما ظهرت فئات أخري ضعيفة شاحبة.. وإن كانت هناك مفاجآت أثبتت وجود أطراف قوية وإن حاول البعض تجاهل هذا الوجود أو إنكاره..
كان الغياب سمة الانتخابات الأخيرة.. بل إنه أخطر سماتها إذا أردنا تحليلا أمينا وصادقا لما حدث.. وقد ارتبط هذا الغياب للأسف بفئات كانت صاحبة دور ومسئولية في مراحل سبقت من تجاربنا السياسية.. وكان من الصعب تهميشها في أكثر الظروف ضراوة وصعوبة.. لقد غاب المثقفون المصريون في الانتخابات البرلمانية تماما.. في مثل هذه الأحداث المهمة في مسيرة الشعوب يبرز دور المثقفين لأن ذلك يدخل في صميم اهتماماتهم ومواقفهم من شعوبهم..
إن قضية الحرية هي القضية التي عاش المثقف المصري من أجلها ومنحها عمره وحياته.. وبسببها دخل السجون والمعتقلات وواجه طواغيت أزمنة القهر والتسلط.. وعبر تاريخها الطويل كانت قضية الحرية هي أولي سطور الأبجدية المصرية.. ابتداء بشكاوي الفلاح الفصيح وانتهاء بترانيم الشعراء وصيحات الكتاب ودعوات أهل الفكر.. ولكننا وبعد مئات السنين نجد أنفسنا الآن في هذا الموقف الغريب.. إذا فتحت قوائم المرشحين لانتخابات مجلس الشعب وجدتها خالية تماما من اسم أي مفكر كبير أو كاتب أو صاحب رأي ووجدت غيابا كاملا لهذه الفئة الحية المناضلة التي ارتبطت دائما بقضايا مصر تاريخا وشعبا..
إن هذا الانسحاب يحمل أكثر من مؤشر خطير.. إذا كان ذلك يأسا من التغيير فهي كارثة.. وإن كان عجزا عن التأثير فهي أم الكوارث.. وإن كان هدنة مع الواقع البغيض فهذا موقف لا يليق مع عقل الأمة وضميرها الحي..
والأغرب من ذلك كله هو غياب المثقفين في برامج الأحزاب وأسماء مرشحيها.. إن الحزب الوطني ـ حزب الأغلبية ـ لم يرشح مفكرا واحدا أو مثقفا كبيرا.. وكما غابت الرموز في قوائمه غابت قضايا الثقافة والفكر في برنامجه ورأيتها لا تزيد علي أفكار عامة لم تتجاوز عددا من السطور القليلة الشاحبة.. وقد وقعت الأحزاب الأخري في الخطيئة نفسها سواء في أسماء مرشحيها أو تفاصيل برامجها.. وهذا يعني أن الثقافة ورقة مصر الرابحة قد انسحبت تماما من الساحة.. علي الرغم من أنها أكثر وجوه مصر تحضرا وتأثيرا وقيمة..
وقد تجسد وجه الغياب الثاني في المرأة المصرية.. نصف المجتمع وأهم القوائم التي يقوم عليها.. إن غياب المرأة بهذه الصورة الدامية في الانتخابات البرلمانية عار ما بعده عار.. إذا كان ذلك إنكارا لوجودها أو رفضا لتمثيلها أو اعتداء علي حقوقها فيجب أن نلغي كل المجالس والإدارات والأجهزة التي أصابتنا بالصداع وهي تتحدث عن المرأة.. وإذا كان ذلك أنانية وفهما خاطئا من الأحزاب السياسية بما فيها الحزب الحاكم فهذا تجاوز مرفوض.. أما إذا كان ذلك سلبية من الأجهزة المسئولة عن شئون المرأة فيجب أن يكون هناك حساب..
لقد أنفقت الدولة مئات الملايين علي توعية المرأة والحديث عن المشاركة السياسية ومحو الأمية وفتح مجالات العمل.. وكان ينبغي أن تكون لذلك كله نتائج ملموسة وواضحة.. ولا أعتقد أن هناك فرصة لتأكيد كل هذه المعاني والأفكار أكثر من المشاركة في الانتخابات البرلمانية.. ولهذا كان غياب المرأة في هذه الانتخابات شيئا محبطا وكئيبا للغاية.. لقد حاولت أن أبحث عن تلك الأسماء الرنانة التي كانت تملأ الشاشات صراخا حول حقوق المرأة وأين هي في قوائم المرشحين أو حتي الناخبين فلم أجد غير الصمت والفراغ..
إن غياب دور المرأة بهذه الصورة الفجة عن الساحة السياسية خسارة كبيرة ليس للمرأة وحدها ولكن للحياة السياسية كلها.. لأن المجتمع الذي يعزل نصفه الآخر بهذه الصورة التعسفية لا يمكن له أن يتحدث عن الحرية والمساواة وحقوق الإنسان..
أما الوجه الثالث للغياب فكان غياب الأخوة الأقباط بصورة لافتة عن جداول المرشحين في كل الأحزاب تقريبا وهذه قضية تدعو إلي التساؤل وهي ليست قضية سياسية ولكنها قضية مجتمع ودولة وأمن واستقرار..
لقد كانت هناك قواعد دائمة ومستقرة تحدد العلاقة بين فئات المجتمع.. بحيث لا يتم تهميش فئة لحساب فئات أخري.. ولا شك في أن الانتخابات البرلمانية افتقدت هذه القواعد وغاب عن جداول المرشحين في كل الأحزاب تقريبا الوجود القبطي الواضح والمناسب.. ولا شك في أن حزب الأغلبية يتحمل نتائج ذلك كله..
وعلي مستوي آخر.. كان غياب الطبقة المتوسطة التي ماتت وشبعت موتا شيئا محزنا للغاية.. إن هذه الطبقة كانت في يوم من الأيام الأساس الذي قامت عليه التجربة الليبرالية المصرية في أزهي عصورها مع نهاية الأربعينيات.. كانت هذه الطبقة تضم أهم نخبة كانت تزهو بها مصر من أصحاب الفكر والمواهب وأصحاب المهن الرفيعة من الأطباء والقضاة والمحامين والمهندسين والتجاريين والسلك السياسي.. وللأسف الشديد أن هذه الطبقة تحللت أمام الظروف الاقتصادية الصعبة وأمام تراجع قيم الثقافة والفكر والخبرة.. ثم تعرضت هذه الطبقة لمؤامرتين في وقت واحد.. لقد ضغطت عليها من أسفل طبقة سفلية جديدة صاعدة.. وضغطت عليها من أعلي طبقة علوية مستفزة.. وما بين الظروف الاقتصادية الصعبة واختلال منظومة القيم وتراجع جوانب التميز والتفوق وتقدير النبوغ تراجعت هذه الطبقة وانكمشت.. علي الرغم من أنها تمثل العمود الفقري الذي يقوم عليه بناء أي مجتمع من المجتمعات..
وأمام اللوريات التي كانت تحمل عمال المصانع إلي لجان الانتخابات والسلبيات في الأقاليم.. والأصوات المباعة في مواكب رجال الأعمال.. غابت الطبقة المتوسطة التي كانت تجسد دائما وعي المجتمع وقدرته علي المشاركة والتغيير.. إن أكبر خسارة لحقت بالمجتمع المصري والساحة السياسية والاجتماعية والإنسانية فيه هي تهميش هذه الطبقة.. لأنها كانت تمثل ضميره الواعي وعقله المفكر..
إن إعادة هذه الطبقة إلي المشاركة الجادة مسئولية صعبة للغاية.. لأن ذلك يدخل في إطار المكونات الثقافية والإنسانية للمجتمع.. وهي جوانب تراجعت بشدة ويصعب إعادتها بين يوم وليلة.. لأن بناء البشر مهمة تحتاج إلي مناخ وسياسات ورؤي.. وهذه أشياء يصعب وجودها الآن..
كان الغياب الأخطر في منظومة العمل السياسي في الانتخابات البرلمانية هو ما كشفت عنه حالة الأحزاب السياسية التي بدت في الساحة هزيلة شاحبة ضائعة كأنها فريق كروي مهزوم.. فلا الجماهير شجعته.. ولا اللاعبين أنصفوه.. وبدت وكأنها كائنات جاءت من كوكب آخر وهي لا تعرف شيئا عن كل ما حولها.. إن الدولة والحزب الوطني يتحملان جزءا من مسئولية غياب الأحزاب السياسية.. فقد شلت حركتها ووضعت لها قيودا أمنية صارمة.. وكان الثمن هذا الغياب المخيف الذي سيتحمل الجميع تبعاته في فترات مقبلة.. وربما كان الثمن غاليا وأغلي بكثير مما تصور هؤلاء.. وكم قلنا إن العمل الحزبي التحام بالجماهير.. وتواصل مع الناس.. وإحساس بالمسئولية.. وليس مجرد صحيفة ومقر ورئيس حزب ومعونة من الدولة.. وإذا كانت الدولة قد أخطأت في حق هذه الأحزاب فإن الأحزاب نفسها تتحمل وحدها نتائج وأسباب ما وصلت إليه.. كان من السذاجة أن تتصور هذه الأحزاب أن الدولة سوف تفتح لها الأبواب علي مصراعيها.. ولهذا كان ينبغي أن تصر علي فتحها بكل الوسائل..
أما أكثر طوائف الشعب غيابا في هذه الانتخابات فهم شباب مصر المحروم من العمل السياسي في الجامعة.. والحائر وراء فرصة عمل لا تجيء.. والمتسكع علي الأرصفة بالملايين.. إن شباب مصر هم المستقبل وعندما يتراجع دورهم بهذه الصورة المؤسفة فإن في ذلك خسارة كبيرة لكل الأطراف.. لقد خلت قوائم المرشحين وسجلات الناخبين من الشباب وكأنهم يواجهون مؤامرة مقصودة للإطاحة بأحلامهم وتهميش دورهم وإبعادهم عن المسرح السياسي.. ولا أجد مبررا لذلك كله..
ولنا أن نتصور المحصلة النهائية لمجتمع غابت أحزابه.. وغاب مثقفوه.. وغاب دور المرأة فيه.. وغاب أقباطه وشبابه.. وانتهي دور الطبقة المتوسطة فيه.. ولم تبق علي رأسه إلا مجموعة من السياسيين المخضرمين الذين تقلبوا بين كل العهود.. وكتيبة من رجال الأعمال تبحث عن مصالحها ابتداء بالقروض التي لا تسدد وانتهاء بالحصانة التي يتسترون خلفها..
إذا كان أصحاب الفكر قد غابوا وانسحبت المرأة بكل ما تمثله من دور ومسئولية.. وغابت منظومة القيم بانسحاب الطبقة المتوسطة صاحبة الأعراف والتقاليد.. واكتشفت الأحزاب نهاية المسلسل الدامي.. هنا فقط سوف ندرك ما تبقي في الساحة من الفرسان من مجلس الشعب الموقر.. إنهم الوجوه القديمة بكل تاريخها.. ومجموعة رجال الأعمال سواء القدامي منهم أو الجدد.. وبعض فرسان الحرس القديم والجديد معا.. ولنا أن نتصور مجلسا نيابيا.. ولا صوت فيه للمرأة.. ولا وجود فيه للفكر.. ولا دور فيه للشباب.. ولا يجلس علي مقاعده كاتب أو مثقف كبير.. لا وجود فيه للأقباط.. ولا يضم معارضة ليبرالية حقيقية.. وربما تكشفت أمامنا الآن أسباب الظواهر الجديدة التي اتضحت في هذه الانتخابات.. كان هناك شيء من العنف تجاوز الانتخابات السابقة بدرجة كبيرة.. وارتفع صوت المال ليشتري الأصوات والذمم والضمائر ويغير النتائج.. وظهرت وجوه جديدة لا يعرف أحد عنها شيئا وستكشف الأيام ما وراء هذه الوجوه.. كان مجلس الشعب في يوم من الأيام يزهو بأن العقاد وهيكل باشا ومكرم عبيد وتوفيق دياب وفكري أباظة ومصطفي مرعي جلسوا تحت قبته.. ولا أدري بمن يفخر المجلس اليوم!.. هل يفخر بغياب المرأة.. أم باختفاء المثقفين.. أم بهروب الطبقة المتوسطة.. أم بعدم وجود أحزاب.. أم بسيطرة رأس المال.. هل هذا ما أراده كهان الحزب الوطني للحياة السياسية في مصر!!..
فهل تتحرك الأغلبية الصامتة.. ومتي وإلي أين تتحرك.. وفي أي اتجاه!..