هوامش حرة : فوضي الصحافة والفضائيات

هوامش حرة



فوضي الصحافة والفضائيات



يكتبها‏:‏ فاروق جـــويـدة ‏‏




هذه الصورة المؤسفة والواقع الكئيب لا يمثل الوجه الحقيقي للصحافة المصرية‏..‏ هذا الكم من الفضائح والمهاترات وتشوية سمعة الناس لا يمكن أن ينتسب إلي صاحبة الجلالة التي كانت يوما مزارا من مزارات مصر العريقة‏..‏ هذا الأداء المهني الهزيل‏..‏ وهذا الانحطاط الأخلاقي والسلوكي المؤسف في السلوك‏,‏ وهذه الأموال الغريبة والمريبة التي تتدفق بلا حساب لا تعكس أبدا تاريخ واحدة من أعرق المهن التي صاغت وجدان هذه الأمة‏,‏ ووضعتها دائما فوق الرؤوس وليس تحت الأقدام‏..‏



أشعر بحزن شديد كواحد من جيل عايش العصر الذهبي للصحافة المصرية‏,‏ وكان واحدا من هذه الكتيبة العريقة التي احترمت دائما عقل القاريء وسمعته وضميره‏..‏ لم تكن الصحافة المصرية مصدر ارتزاق أو بحث عن ثراء أو صفقات مشبوهة‏..‏ كان حلم الصحفي أن يتلقي رسالة تقدير‏,‏ وأن يحظي بقدر من الحب‏,‏ وأن يثير قضية تهم جموع الناس وأن ينام آخر الليل راضيا مرضيا‏..‏



كان من الصعب أن تجد صحفيا أو كاتبا ثريا إلا إذا كان وارثـا وكان الوارثون قلة‏..‏ لم تكن الصحافة مصدر صفقات أو أعمال غير مشروعة‏,‏ وكان أثرياء الصحافة المصرية لا يتجاوز عددهم أصابع اليد الواحدة‏..‏ وكان ثراؤهم ثراء محسوبا يتجسد في سيارة أو سكن أو أسفار للخارج‏..‏ ومات معظمهم فقراء‏..‏ كان جزء منهم ينفق ماله علي أصحاب المواهب من الشباب الواعد كما فعل كامل الشناوي‏,‏ وكان الجزء الآخر يحب أن يعيش ويستمتع بحياته كما فعل التابعي‏..‏ وبين هؤلاء وهؤلاء كان عشاق الثقافة والفكر من رهبان صاحبة الجلالة وما أكثرهم‏..‏



عاش العقاد فقيرا وباع جزءا من مكتبته قبل أن يرحل بسنوات‏..‏ وكانت الحكومة المصرية تقدم معونة سنوية لكل من طه حسين والحكيم قيمتها الفا جنيه لكل منهما يسافران بها إلي أوربا في شهور الصيف‏..‏ لم يكن الثراء حلما بالنسبة لأصحاب الأقلام ولكن الموقف كان هو الحلم‏..‏ والقضية هي الرسالة والقلم هو الدور والمسئولية‏..‏



وتغيرت الأحوال وجاءت أسماء تصورت أن الصحافة وسيلة ثراء وارتزاق وصفقات وساءت أحوال الصحافة أمام أصحاب الملايين من أبنائها الذين جمعوها حلالا وحراما‏..‏ وترتب علي ذلك نتائج كثيرة‏..‏



تحول شباب الصحافة الواعدين إلي مندوبي إعلانات يطوفون علي مكاتب المسئولين ورجال الأعمال ليس بحثـا عن خبر أو تحقيق‏,‏ ولكن بحثــا عن صفحة إعلانية‏..‏ وتسلل هؤلاء للعمل كمستشارين لهؤلاء المسئولين‏,‏ وكان كل مسئول أو وزير يغير هؤلاء كما يغير رباط عنقه وأفسد المسئولون الصحافة وأفسد مندوبو الإعلانات المسئولين‏,‏ كان هذا الفساد المتبادل أول ثمار هذه العلاقة غير الشرعية‏..‏



ترتب علي ذلك انحطاط المستوي المهني للأداء الصحفي وأصبح من الصعب أن تجد خبرا متميزا أو تحقيقـا جريئـا أو مقالا يضيف لعقلك وفكرك شيئا جديدا‏..‏ ومع رحيل كوكبة كبيرة من أصحاب الأقلام الكبار خلت الساحة من روادها وخسرت الصحافة أجيالا كاملة لم تجد فرصة حقيقية لأن تكتب وتتعلم وتضيف‏..‏



مع انحدار المستوي السلوكي والمهني تراجعت أخلاقيات صاحبة الجلالة‏,‏ فوجدنا الأخبار الكاذبة التي تحولت مع الوقت إلي فضائح‏..‏ وأصبحت سمعة الناس زادا يوميا لصحافة مريضة‏,‏ وساعد علي ذلك رغبة شرهة في زيادة التوزيع‏,‏ وتحقيق المكاسب وجمع الأموال والابتزاز المعلن والارتزاق المشروع‏..‏ وهنا أيضا ظهرت مواكب من الأدعياء في بلاط صاحبة الجلالة مارسوا كل ألوان النصب والتحايل‏,‏ واستطاع هؤلاء مع الوقت وفساد المناخ العام أن يتحولوا إلي مراكز قوي في الصحافة المصرية‏..‏ وأن تكون لهم منابر ومناطق نفوذ لدي السلطة‏..‏ لقد خافت السلطة في أحيان كثيرة من ابتزاز هؤلاء‏..‏



وشهد ذلك كله ظهور أعداد كبيرة من الصحف المجهولة الهوية والتمويل والهدف‏..‏ ظهرت تلال من الصحف لم نعرف من أين جاءت وكيف ظهرت‏,‏ ومن أين حصلت علي تصريح صدورها ومن الذي يقدم لها التمويل‏..‏ وما هو الهدف من ذلك كله‏..‏ في مصر الآن أكثر من‏600‏ مطبوعة يومية أكثر من نصفها لا يعرفه القاريء‏..‏ والأغرب من ذلك كله أن هذه المطبوعات تحصل علي ملايين الجنيهات في صورة إعلانات من الحكومة‏..‏ كيف يتم ذلك ولحساب من‏..‏ ومن يقف وراء هذه التجارة البشعه‏..‏ سؤال يبحث عن إجابة‏..‏



في هذا الزحام تسللت أسماء غريبة إلي بلاط صاحبة الجلالة ووجدنا رؤساء تحرير ليسوا أعضاء في نقابة الصحفيين ووجدنا صحفا تصدر بتصريحات من الخارج‏..‏ ووجدنا أموالا تتدفق ولا أحد يعرف مصادرها‏,‏ وإن كنت علي ثقة أن الدولة تعرف كل هذا ولا تتحرك‏,‏ وهذا في حد ذاته شيء مريب‏..‏



هنا أيضا تسللت أسماء كثيرة للعمل في هذه الصحف وهي ليست مؤهلة ولا تربطها أي صلة بنقابة الصحفيين وطبيعة العمل الصحفي أخلاقيا ومهنيا وسلوكيا‏,‏ وللأسف الشديد أن الكثير من هؤلاء لم تكن لهم علاقة بالعمل الصحفي‏,‏ ولم يعرفوا تقاليده وأخلاقياته وتحولت القضية إلي مجرد‏'‏ سبوبة‏'‏ ومصدر ارتزاق وسط جو معبأ بفساد الذمم والضمائر‏..‏



انطلقت الحرائق والفضائح وحكايات الجنس والزواج والعري والطلاق تملأ آلاف الصفحات وأصبحت هناك تجارة رابحة في الأسواق تقوم علي العمل الصحفي‏..‏ وانتشر العاملون في هذه المواخير الصحفية في المجتمعات الراقية وغير الراقية يرصدون الفضائح ويدبجون الحكايات‏..‏ ويثيرون عشرات القضايا الكاذبة‏..‏



هنا أيضا حدث لقاء غريب وتربيطات مريبة بين هذه الصحف المشبوهة‏,‏ وبعض الفضائيات التي تبحث عن مسلسلات الفضائح‏..‏ تحولت هذه الصحف إلي مصدر من مصادر الأخبار والتحقيقات والمقابلات علي هذه الفضائيات‏..‏ وتحول عدد كبير من الصحفيين الذين يعملون في هذه الصحف للعمل في إعداد برامج هذه الفضائيات‏..‏ وكانت الفضائح هي العامل المشترك بين صحافة الفضائح وفضائيات الإثارة‏..‏ ووجدنا المواطن الغلبان محاصرا من كل جانب تطارده برامج الفضائيات والصحافة الصفراء بكل جوانب القبح فيها‏,‏ وقد فتحت هذه العلاقة الغريبة بين بعض الفضائيات والصحافة الصفراء أبوابا جديدة للارتزاق والابتزاز والإثارة وأصبحت مصدر دخل مريب ورهيب‏..‏ وهنا أيضا كان الصراع علي وليمة الإعلانات بين هؤلاء جميعا ودخلت فيها أطراف كثيرة رسمية وغير رسمية والكل يبحث عن صفقه أو جزء من الوليمة‏..‏



لم يكتف رأس المال الصاعد في مصر بأن يحتكر المنابر السياسية‏,‏ وأن يسيطر علي السلطة التشريعية‏,‏ وأن يكون صاحب الصوت الأقوي في الحكومة ولكنه اتجه إلي الإعلام سواء كان صحافة أو فضائيات وقنوات تليفزيونية‏..‏ ووجدنا‏,‏ محاولات ضارية للسيطرة علي كل شيء بحيث تحولت هذه الوسائل الإعلامية من أدوات لنشر الفكر والوعي والثقافة إلي أدوات ضغط وابتزاز للقرار السياسي وحماية المصالح الاقتصادية ودخل الإعلام المعركة بين رأس المال والسلطة وفي ظل غياب الشفافية والمصداقية تحول الإعلام إلي أدوات تخريب وفضائح سواء كان مرئيا أو مقروءا أو مسموعا‏..‏ ولاشك أن ذلك كله كان علي حساب الدور الثقافي لمصر التي لم تكن يوما موطنـا لرأس المال الجشع‏,‏ ولكنها كانت دائما وطنـا للفكر المستنير والصحافة الجادة والثقافة الواعية‏..‏ أمام هذا التهريج وهذا الإسفاف تراجع الدور الثقافي المصري‏,‏ ووجدنا أنفسنا في منافسات مع الإسفاف والفضائح وتنكرنا لأهم أدوارنا في تأكيد القيمة الحقيقية للثقافة والفكر من خلال صحافة جادة وإعلام متميز‏..‏



كانت هناك أياد خفية تحرك ذلك كله ولا أحد يعلم هل تعرف أجهزة الدولة هذه الأيادي‏,‏ أم أنها شاركت في أحيان كثيرة في تقديم الدعم هنا أو هناك بغرض الهاء الناس وراء هذه القصص والحكايات خاصة أن هناك من يشارك في صنع الأخبار لهذه الصحف وتقديمها للفضائيات‏..‏



في الوسط الصحفي أسماء كثيرة الآن نشأت وترعرت في أحضان أجهزة أمنية‏,‏ وكان أداء هذه الأجيال الجديدة أقرب للآداء الأمني منه للأداء الصحفي ولهذا تراجعت قيم العمل الصحفي وأخلاقياته أمام أساليب الأمن وأساليبه‏,‏ وقد ترتب علي ذلك كله حالة الانفلات في الساحة الصحفية بصفة خاصة والإعلامية بصفة عامة‏..‏ وهنا لا نستطيع أن نتجاهل دور الدولة في هذه المأساة لأنها في أحيان كثيرة كانت تعلم ولم تبحث ولم تحاسب ولم تحاول إنقاذ السفينة قبل أن تغرق‏..‏ هنا أيضا لا نستطيع أن نتجاهل دور رأس المال الذي فرض زواجا باطلا علي الصحافة المصرية‏,‏ وتسلل إليها بمنطق الربح والخسارة وشراء الذمم‏,‏ ونجح في ذلك نجاحا كبيرا من خلال شراء الأقلام أو بسطوة الإعلانات‏..‏



نحن الآن أمام ظاهرتين خطيرتين‏..‏ صحافة انفلت فيها الزمام‏,‏ وبدلا من أن تكون رسالة تنوير وفكر أصبحت أداة إثارة وفضائح‏..‏ وفضائيات استهلكت المال والجهد وشوهت كل القيم والثوابت دون أن نعرف من أين يأتي هذا الطوفان‏,‏ وبين هذا وذاك تقف لعنة الإعلانات حيث تدير كل شيء وتقف وراء كل هذه الكوارث‏..‏



هناك أيضا أياد خفية تلعب في الخفاء إدارة وتمويلا وبحثـا عن أدوار‏..‏ أن الانقلابات التي شهدتها الحياة في مصر لا يمكن أن تكون عملا تلقائيا‏..‏ إن التغير الذي شهدته الشخصية المصرية‏..‏ والتحولات الحادة في سلوك الأجيال الجديدة‏..‏ والعنف الذي أنتشر بصورة مخيفة‏..‏ وغياب الانتماء وفقدان الهوية‏..‏ وتراجع الجوانب الأخلاقية في سلوكياتنا‏..‏ والتدهور الذي أصاب الصحافة المصرية وموجات العري الذي يحاصرنا علي الشاشات‏,‏ واختلال منظومة التعليم وفساد منظومة الثقافة‏..‏ كل ذلك لم يكن شيئـا عاديا ولكن سبقته برامج مدروسة وعقول باعت نفسها ووطنها للشيطان‏..‏ من يقف وراء ذلك كله‏..‏ وهل سيجيء وقت للمكاشفة والحساب‏..‏ سؤال حائر لا يجد الإجابة‏..‏





‏fgoweda@ahram.org.eg‏‏







..‏ ويبقي الشعر





في وطـنك قبرك يا ولـدي

لا تـتـرك أرضك مهما كـان

أطــلق أحجارك يا ولـدي

في كـل مكـان



ابدأ بخطايا داود

واختم برؤوس الكـهان

لا تتـرك في الكـعبة صنـما

ولـتـحرق كـل الأوثـان



لن يصبح بيت أبـي لهب

في يوم دار أبي سفـيان

لا تـسمع صوت أبـي جهـل

حتـي لـو قـرأ الـقرآن



فزمانـك حقـا يا ولدي

زمن الإيمان‏..‏ الإيمان

واجعل من حجرك مئذنة

ودعاء مسيح‏..‏ أو رهبان



واجعل من حجرك مقــصلة

واخرس تعويذة كـل جبان

فالزمن القادم يا ولـدي

زمن الإنـسان‏..‏ الإنـسان



من قصيدة إن هان الوطن يهون العمر سنة‏1990‏

إرسال تعليق

أحدث أقدم