هوامش حرة
لهذا كله.. أصبح نجيب محفوظ
يكتبها: فاروق جـــويـــدة
لا أدري أين يتوقف الإنسان في مشوار كاتبنا الكبير نجيب محفوظ وعن أي الجوانب في رحلته الثرية يكتب.. هل هو نجيب محفوظ المبدع.. أم الدور.. أم الشخصية.. أم الإصرار مع درجة مذهلة من التواضع.. أم هذا الزهد المترفع عن بريق الأضواء وصخب الاجتماعيات وصوت المال الطاغي..
إن نجيب محفوظ جمع في مشواره كل هذه الأشياء.. هذا الإبداع الثري الذي أصبح علامة في الأدب العربي المعاصر بل علامة في تاريخ الأدب العالمي الذي توجه بجائزة نوبل في الآداب.. وفي كل مراحل إبداعه تجد ذلك القلم المغموس في طين هذا الوطن يحمل سماته ولونه وخضرة نيله وصفاء أهله وبساطة شعبه.. وفي إبداع نجيب محفوظ يمكن أن تتوقف كثيرا عند هذا الإنجاز الكبير الذي سطره قلم روائي عظيم..
التقيت للمرة الأولي بكاتبنا الكبير في الدور السادس بالأهرام في السبعينيات وفي مكتب الراحل الكبير توفيق الحكيم كان يوم الخميس من كل أسبوع هو العرس الفكري والإبداعي لهذه النخبة من كتاب مصر الكبار.. وكنا نقترب منهم علي استحياء نسمع ونتعلم ونراقب محاورات هذا الزمن الجميل.
كان نجيب محفوظ يطل وسط هذه الكوكبة وخلفه مشوار طويل من الإبداع وأمامه رحلة ربما لم يكن يعلم أنها ستجعل منه يوما أشهر كتاب العربية وأعلاهم رصيدا ودورا في تاريخ الأدب العربي الحديث..وربما كان هذا هو السبب في عزوفه عن الأضواء لأنه صاحب مشروع يبدو أنه كان يدرك عن وعي حدوده وشواطئه.. كان يكتب كل يوم وقد لا ينشر كل ما كتب.. وكان يعمل في وظيفة حكومية توفر له ضرورات الحياة حتي يتفرغ للكتابة حتي وصل به الحال إلي أن يكتب السيناريوهات للأفلام ليوفر مصادر رزقه.. ولم يتزوج شابا لأنه تزوج الرواية في شبابه.. ولم ينضم إلي حزب سياسي وإن أحب من الأعماق سعد زغلول ككل أبناء جيله ممن بهرهم هذا المناضل العظيم.. وعندما أطل بإبداعاته علي الساحة الأدبية جاء لها مكتمل البناء والمشروع والهوية.. إن نجيب محفوظ صنع نفسه علي عينه ولم يفرط في يوم واحد من سنوات عمره وقدمه بسخاء ورضا لإبداعه الجميل الراقي..
لقد غفلت الحياة الأدبية سنوات طويلة عن نجيب محفوظ أمام زحام أسماء أشد بريقا وأكثر تأثيرا علي المستوي الفكري والسياسي.. كان جيل الثلاثي العظيم طه حسين والعقاد والحكيم يغطي الساحة كلها في الأدب والمسرح والفكر حتي الرواية وقد كتبها العمالقة الثلاثة.. كان من الصعب أن يزاحم كاتب مهما كان قدره هذا الثالوث الخطير.. ولكن محفوظ كان قد أتم مشروعه الكبير وبدأ يلقي بأعماله درة بعد درة.. وإعجازا بعد إعجاز وسرعان ما كسب في وقت قصير جولات وراء جولات حتي تسيد الساحة وأصبح الروائي الأول في العالم العربي..
وعلي الرغم من أن ناقدنا الكبير الصديق العزيز الأستاذ رجاء النقاش ـ شفاه الله وعافاه ومتعه بكامل الصحة ـ اقترب من هذه المناطق الخفية في رحلة محفوظ في كتابه الرائع عن هذا المبدع العظيم فإنني تمنيت يوما لو أن نجيب محفوظ ترك رجاء يغوص في أعماقه اكثر ويسبح في بحاره الواسعة لكي نعرف تفاصيل ثلاثين عاما من الغموض هي سنوات النضج في رحلته الإبداعية وفيها الكثير من الأسرار.. إن في حياة نجيب محفوظ مرحلة من التكوين والإبداع لم يكشف عنها أبدا وفي تقديري المتواضع أنها تمثل كنزا حقيقيا لم يعرف بعد في مسيرة المبدع الكبير.. كيف كان شبابه.. وكانت رجولته.. وكانت تفاصيل حياته ما بين الأعوام العشرين ومنتصف أربعينيات العمر.. ربع قرن تشكل فيه إبداع نجيب محفوظ.. وكان إبداعا مذهلا وثريا.. ولكن غابت حقائق كثيرة خلف هذا الإبداع قصصا وأحداثا ومؤثرات ما أحوج الأجيال الجديدة إلي أن تعرفها ففيها دروس بالغة الدلالة..
وفي زمن ما احتسب البعض نجيب محفوظ علي اليسار المصري الذي احتفي به كثيرا.. واحتفت به ثورة يوليو وضباطها الأحرار وحسبه البعض علي الوفد القديم بحكم العمر والتاريخ والانبهار بثورة19.. ولكن نسي هؤلاء جميعا أن نجيب محفوظ لم يتعامل يوما مع السياسة بعيدا عن الفن أنه يري الفن هو الأكبر والأعمق والأبقي وأن كل شيء يمكن أن يدور في فلكه.. وهو هنا يذكرني بالمتنبي الذي كان يري نفسه أكبر من كل سلاطين زمانه وحكام عصره وهذا حال كل مبدع عظيم حينما تتجاوز قامته الزمن الذي عاش فيه.. والبشر الذين قرروا حياته ومصيره..
ولهذا كان محفوظ يري أنه أكبر من السياسة ومن الساسة ومن كل حرف في الكلمة كما لعنها يوما الإمام محمد عبده.. إن نجيب محفوظ يري كل شيء بعيون الإبداع.. ففي الفن سياسة وفكر وتصوف ورهبانية.. ومن هنا كانت رؤيته الإنسانية للكون والبشر والأشياء وإن حملت جذور تكوينه كإنسان مصري الهوي إنساني الملامح..
وفي مشوار نجيب محفوظ درس لكل من يسعي إلي أن يكون صاحب دور ورسالة.. كان صادقا عندما كتب.. مخلصا عندما اختار طريقه.. دؤوبا لكي يواصل الرحلة.. قانعا إلا مع الإبداع الجميل.. بسيطا مثل كل الشرفاء في هذا الوطن.. مترفعا أمام إغراءات الحياة وتفاهات البشر.. ولهذا كله أصبح نجيب محفوظ.. كل سنة وأنت طيب يا عمنا الكبير..