هوامش حرة
حكومة لكل المصريين..
يكتبها: فـــاروق جـــويـــدة
من الظلم أن نحاسب الآن حكومة الدكتور أحمد نظيف.. فلم يمض علي وجودها في السلطة إلا شهور قليلة.. وينبغي أن يكون لديها المتسع من الوقت حتي تقترب أكثر من قضايانا الحقيقية وتصل إلي ما يشبه الرؤية الشمولية لواقع المشكلات في مصر حتي تبدأ رحلة العلاج.. ولكن للإنصاف فإن الحكومة الجديدة سريعة في إيقاعها حاسمة في قراراتها.. وإذا قارناها بحكومات سابقة فإنها بكل المقاييس أكثر اندفاعا وأكثر جرأة في مواجهة الواقع.. وربما كان السبب الرئيسي في ذلك أن في الوزارة دماء جديدة شابة خاصة في قطاعها الاقتصادي تحاول أن تؤكد وجودها وتستخدم وسائل أكثر معاصرة في حل مشكلاتنا الاقتصادية المعقدة..
وعلي الرغم من أن هذا التوجه يلقي تأييدا واسعا علي المستويين الرسمي والشعبي.. فإن هناك بعض الجوانب التي تستحق أن نلقي الضوء عليها في دوامة هذه القرارات سواء كانت في شكل قوانين أو قرارات وزارية.
الواضح أن الحكومة بدأت مواجهتها مع ما يمكن أن نسميه' المشكلات العليا'.. بمعني آخر أنها أعطت اهتماما خاصا لقوانين لا تخص الشريحة الأكبر في المجتمع وعلي رأسها قوانين الجمارك والضرائب والبنوك.. وقد يري البعض أن آثار هذه القوانين سوف تظهر في وقت لاحق علي أسعار السلع ومستوي الدخول وتوافر مطالب الناس.. في جانب آخر يري البعض أن هذه القوانين أبعد ما تكون عن الطبقات الفقيرة.. وهنا ندخل في بعض التفاصيل:
أولا: اهتمت الحكومة بصورة مبالغ فيها بتصفية الخلافات بين البنوك ورجال الأعمال المتعثرين حتي بدا الأمر وكأنه محاولة لإبرام صفقة سريعة مهما كانت الخسائر.. ولهذا أخفت البنوك تماما حقيقة ما جري بينها وبين المتعثرين.. سواء كانوا من المقيمين أو الهاربين.. ولا أحد يرفض إطلاقا مبدأ التسويات وعودة حقوق البنوك وإنقاذ رجال الأعمال من أخطار الإفلاس أو السجون.. لا يوجد من يعترض علي ذلك.. ولكن ليس من المنطقي أن يتحول هؤلاء إلي ضحايا أمام الرأي العام وأن البنوك هي التي تعسفت مع هؤلاء الناس.. وأن القضاء سجنهم بلا أسباب.. والنيابة منعت سفرهم بلا مبررات.. هؤلاء الأشخاص مدينون للبنوك.. وهناك قواعد وضوابط في العمل المصرفي تطبق علي الجميع.. متعثرين وغير متعثرين.. ويجب تنفيذها.. ولكن الأمور اختلفت في هذه التسويات.. وأصبح الهاربون بأموال البنوك ضحايا.. وهذا شيء عجيب!!..
وبقدر السرعة التي تحاول بها الحكومة إنهاء مشكلاتها مع المتعثرين فإن الضحايا الحقيقيين في شركات توظيف الأموال ولهم حقوق لدي الحكومة لم يسأل عنهم أحد.. كان آخر كلام أعلنه د. عاطف عبيد رئيس الوزراء السابق أن جميع مستحقات ضحايا شركات توظيف الأموال سوف ترد لهم قبل نهاية عام2004 وكان هذا تعهدا والتزاما واضحا من الحكومة تجاه هؤلاء الناس.. ولم تصرف الحكومة قرشا واحدا لضحايا شركات توظيف الأموال.. علي الرغم من أن أصول هذه الشركات قد زادت عشرات الأضعاف أمام ارتفاع أسعار العقارات والأراضي والمصانع والدولار.. وهنا يتضح لنا الفارق الكبير في معالجة المشكلات حيث تسعي الحكومة إلي إنقاذ الهاربين بأموال البنوك وهم مدينون لها.. ولا تعطي لضحايا شركات توظيف الأموال حقوقهم لديها.
ثانيا: اهتمت الحكومة بقوانين الضرائب والجمارك حيث خفضت الرسوم الجمركية بنسب متفاوتة علي السلع ابتداء بالسيارات وانتهاء بالمواد الخام.. وفي الوقت نفسه تسعي إلي فتح أبواب جديدة لتيسيرات ضريبية لعل أخطر ما فيها مبدأ التصالح والتوسع الكبير في تسوية حالات التهرب الضريبي مع رجال الأعمال والقطاع الخاص.. ولا شك في أن جمارك السيارات تهم شريحة قليلة جدا من المواطنين.. وأن السعي إلي تسوية مستحقات الدولة الضائعة من الضرائب يهم أيضا شريحة قليلة.. وهنا نأتي إلي موقف مضاد لم يجد أحدا يناقشه أو يهتم به..
إن محصول القطن مازال حتي الآن قابعا في بيوت الفلاحين في مصر ما بين حرارة الجو وأمطار الشتاء.. فلا الحكومة قامت بشراء المحصول من الفلاحين.. ولا القطاع الخاص شارك في ذلك.. والمشكلة في الأساس جاءت نتيجة انخفاض الأسعار العالمية للقطن أمام زيادة الإنتاج في كل من أمريكا والهند.. كانت شركات تصدير الأقطان المصرية قد تعاقدت علي بيع المحصول ولكن الأسعار العالمية انخفضت بصورة كبيرة مما جعل هذه الشركات تلغي التعاقدات وتتحمل غرامة عدم التنفيذ وهي10%.. وكانت النتيجة انخفاض سعر القطن من1200 جنيه في العام الماضي إلي600 جنيه في العام الحالي.. وحتي بهذا السعر لم يجد القطن من يشتريه.. ولم تتحرك الحكومة ولم تتدخل البنوك وبقيت أكياس القطن حتي الآن في بيوت الفلاحين الغلابة.. وهذا شكل من أشكال التناقض وعدم العدالة في مواجهة قضايا الناس.. رجال الأعمال الهاربون بأموال البنوك تتجه إليهم الأنظار وتفتح لهم القلوب لتسوية ديونهم.. ورجال الأعمال المتهربون من الضرائب تصدر لهم القوانين التي تعطيهم فرصا كبيرة لتسوية ما عليهم.. أما الفلاحون الغلابة الذين لا صوت لهم في الصحافة أو مجلس الشعب أو مجلس الشوري أو الحزب الوطني فيجلسون علي كارثة لا حل لها.. وهي محصول القطن الذي لا يباع..
ثالثا: يجب أن تتركز جهود الحكومة في إيجاد مصادر جديدة تضيف موارد للدخل القومي تعويضا عن العجز في حصيلة الجمارك والضرائب.. ولكن هناك توجه آخر وهو الإسراع ببيع المشروعات في نطاق برنامج الخصخصة.. ومازلت عند رأيي أن الخصخصة لا تعني البيع فقط ولكنها تعني تطوير أساليب الإنتاج.. وهناك نماذج صارخة لمشروعات تم بيعها بسرعة غريبة بأسعار لا تتناسب إطلاقا مع أسعارها الحقيقية.. والنموذج الصارخ في ذلك هو بيع شركة طنطا للكتان والزيوت بمبلغ83 مليون جنيه لمستثمر عربي.. وهي واحدة من أهم الشركات المصرية وتقام علي مساحة74 فدانا تقدر قيمة الأرض فقط بمبلغ126 مليون جنيه علي الرغم من أن القيمة الحقيقية للشركة بما فيها الارض والمعدات تتجاوز مبلغ الـ350 مليون جنيه.. والأغرب من ذلك كله أن المشتري دفع43 مليون جنيه نقدا علي أن يتم سداد الباقي وقدره40 مليون جنيه من ريع الشركة علي عشر سنوات..
ولهذا ينبغي أن نراجع المشروعات قبل بيعها حتي لا تتكرر أخطاء فادحة حدثت في السنوات الماضية.
رابعا: علي الرغم من كل الإجراءات والقوانين التي أصدرتها الحكومة في الفترة الماضية فما زالت قضية ارتفاع الأسعار تؤرق كل بيت.. لقد انسحبت وزارة التموين من الساحة تماما.. سلعيا ورقابيا.. وتركت الأسواق لجشع التجار والمستوردين.. وللأسف الشديد فإن أسعار السلع في ارتفاع مستمر علي الرغم من تخفيض الرسوم الجمركية علي عدد كبير من المواد الخام وقطع الغيار وغيرها.. وهنا ينبغي أن يكون هناك قدر من الحسم في مواجهة هذه الظاهرة لأنها تبتلع كل زيادة في دخول المواطنين..
خامسا: ينبغي ألا ننسي أو نتجاهل أو نؤجل قضية البطالة لأنها أخطر الأزمات في كل بيت مصري.. وسوف تظل هذه المأساة لغما خطيرا في كل أسرة.. وعلي الرغم من كل محاولات حل هذه الأزمة فإنها أكبر من كل الحلول التي طرحتها الحكومات حتي الآن.. سواء كانت حكومات سابقة أو الحكومة الحالية.. ومهما كانت الجهود التي تبذلها الدولة لمواجهة مشكلات مصر فسوف تبقي البطالة في مقدمة هذه المشكلات.. وهنا يمكن أن نعيد الحديث عن التوسع الغريب في استيراد العمالة الأجنبية في مجالات مختلفة لأن هذه الظاهرة يمكن أن تكون من الأسباب الحقيقية لأزمة البطالة.. لقد قام الصندوق الاجتماعي بدور كبير في مواجهة الأزمة.. وهناك وزارات مثل وزارة البترول تحاول إيجاد فرص أوسع للعمالة المصرية المعطلة.. ولكن يجب أن يشارك الجميع في مواجهة هذه الأزمة وأن يقوم القطاع الخاص بدوره لتخفيف الأعباء عن الحكومة.
سادسا: قلت في البداية إنني أقدر كثيرا حماس الحكومة الجديدة خاصة أن هناك فريق عمل اقتصاديا يقوده الآن د.يوسف بطرس غالي وزير المالية.. وهو الآن أكثر جوانب العمل الوزاري نشاطا واندفاعا وحسما.. وقد اختلف د. غالي مع كل رؤساء الوزارات السابقين الذين عمل معهم.. وقد انتقدت أكثر من مرة أداء د. يوسف بطرس غالي.. وهو الآن يجلس في أهم وزارة في الحكومة وهي وزارة المالية.. وقد بدأ عمله بحماس يحسب له مع د. أحمد نظيف وكان وراء عدد من مشروعات القوانين الخطيرة.. منها الجمارك والضرائب.. ومازال الرجل يكمل مشواره.. وهذا الحماس المندفع والجرأة الشديدة في مواجهة مشكلات الاقتصاد المصري سوف تعيد اكتشاف د. يوسف بطرس غالي.. وهنا يمكن أن نعرف الحقيقة.. فإما أن يكون هذا الرجل عبقريا سابقا لعصره مع كل من عمل معهم من قبل.. أو أنه مغامر كبير.. إذا كان بالفعل عبقريا فسوف يكون له في أعناقنا اعتذار.. وإذا كان مغامرا كبيرا فأرجو الله أن يحمينا من شططه.. والأيام وحدها صاحبة الحكم والقرار..
والخلاصة عندي.. أن الحكومة جادة وشجاعة وحاسمة في قراراتها.. ولكن هذا الحماس ينقصه شيء واحد.. هو أن يكون حماسا لكل فئات المجتمع.. وليس انحيازا لفئات دون أخري.. لأنها حكومة لكل المصريين.