هوامش حرة
عيد الحب الدامي.. في بيروت
يكتبها: فـــاروق جـــويـــدة
ما أكثر الأيام الدامية في التاريخ العربي الحديث.. وما أكثر الأيام السوداء التي غطت سماء هذه الأمة في الأعوام الخمسين الماضية.. وكان لبنان الوطن الجميل أسوأ البلاد العربية حظا ونصيبا في هذا التاريخ الأسود.. لقد بقي هذا الوطن ينزف أمام عيون أشقائه أكثر من16 عاما دون أن يمد له أحد يدا أو يحاول إنقاذه.. كانت الحرب الأهلية في لبنان واحدة من كبري الجرائم في زماننا.. وقد شاركت في هذه الجريمة أطراف عربية ودولية.. ومحلية.. وكان الشعب اللبناني أول وآخر ضحاياها..
وفي منتصف يوم الإثنين الماضي أطلت أشباح الحرب الأهلية تحوم مرة أخري أمام فندق' سان جورج' في قلب بيروت في جريمة بشعة.. بل مذبحة دامية راح ضحيتها رئيس وزراء لبنان السابق رفيق الحريري.. الرجل الذي أعاد بناء لبنان واستطاع في سنوات قليلة أن يضع لبنان علي خريطة العالم مرة أخري..
لقد شاهدت بنفسي آثار الجريمة والدماء تتناثر في كل مكان وأطلال عشرات السيارات المحترقة.. وحفرة في أعماق الأرض تبدو وكأنها تعرضت لزلزال مدمر..
كان يوم الإثنين الماضي واحدا من أطول الأيام التي عشتها.. حملت حقائبي واتجهت إلي مطار القاهرة بدعوة من قناة' المستقبل' ضيفا علي برنامجها الأشهر' خليك في البيت' الذي يعده ويقدمه زاهي وهبي.. ساعة من الوقت وكانت الطائرة تهبط في مطار بيروت وفي عيون المستقبلين والمسافرين كانت الدموع تبدو من بعيد.. وكان السؤال: ماذا حدث!.. وكان الجواب: قتلوا الحريري!!..
حملتني السيارة ومندوبو قناة' المستقبل' إلي الفندق.. كل الطرق إلي منطقة الفنادق مزدحمة بالناس ورجال الشرطة وسيارات الإسعاف.. إن فندق' راديسون' الذي سأنزل فيه في قلب الحادث.. إن أمامه مباشرة فندق' سان جورج' الذي تمت أمامه الجريمة علي طريق الكورنيش.. وأمامه فندق' فينيسيا' أشهر فنادق بيروت.. وأمام هذه الفنادق اشتعلت الشرارة الأولي للحرب الأهلية في لبنان في منتصف السبعينيات..
تركت الفندق وذهبت إلي موقع الحادث.. واحدة من أبشع الصور التي يمكن أن يراها إنسان.. واجهات البيوت محطمة تماما.. كميات مخيفة من الزجاج تتناثر بالأكوام في كل مكان.. المحلات والمطاعم وقد دمر الانفجار واجهاتها الزجاجية تماما.. حفرة ضخمة يخيل إليك أنها بداية حفر مشروع ناطحة سحاب ضخمة.. أكثر من مائة سيارة محطمة.. سيارة الحريري وسيارات حراسه الستة مدمرة بالكامل ولا شيء فيها يؤكد أنها كانت سيارات.. وكان فيها بشر قد تفحموا تماما.. رجال الشرطة يحيطون بالمكان.. والسيارات مازالت ترتفع فيها ألسنة اللهب.. منظر حزين كئيب دام.. الناس في الشوارع لا يصدقون ما حدث.. لقد نسيت الأجيال الجديدة مأساة الحرب الأهلية التي دمرت في لبنان مبانيه وأهله.. وترابه..
لقد زرت لبنان من قبل أكثر من مرة.. شاهدته وطنا جميلا رائعا في بداية السبعينيات وقبل اندلاع كارثة الحرب بعامين.. كان الدولار الأمريكي يومها يساوي بضع ليرات لبنانية لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة.. وكان الاقتصاد اللبناني أنشط وأنجح اقتصاديات العالم العربي.. وكانت السياحة في لبنان قمة النشاط الاستثماري في البلاد.. وكانت شوارع لبنان العريقة تجمع عبق الماضي الجميل وسحر الحاضر المتطور.. وكان الشعب اللبناني من أرقي الشعوب العربية فنا وثقافة وإبداعا.. وكان اللبنانيون بالفعل يمثلون قمة التحضر في التعامل والذوق الرفيع.. كانوا يتصارعون طوال اليوم من أجل صفقة تجارية أو خلافات في الفكر أو الرأي أو الشعر أو السياسة.. وفي الليل تجمعهم موائد الطعام والشراب في كل مكان.. وكان الشعب اللبناني هو الشعب العربي الوحيد الذي يؤمن بكل الأديان لأنه لا يعرف التعصب.. ولا يؤمن بالعداء بين الأديان.. لأن الأديان لله.. ولبنان الجميل وطن للجميع..
في فترة ما قبل الحرب الأهلية كان لبنان قد وصل إلي قمة تألقه.. وكان الحاقدون والمتخلفون والطامعون ينظرون إلي الوطن الصغير ويتعجبون كيف فعل هذا الشعب الصغير كل هذا الإنجاز الكبير!.. وحلت اللعنة علي وطن الجمال.. ولا أحد يعرف حتي الآن هل كانت لعنة من الأشقاء والجيران.. أم لعنة من الأعداء.. أم لعنة الشعب اللبناني نفسه الذي تخلي عن أجمل ما كان فيه وهي روح الشعب الواحد والحب الواحد.. والمستقبل الواحد!..
في منتصف السبعينيات كنت عائدا من رحلة طويلة في الهند وتوقفت بنا الطائرة في مطار بيروت.. كان صوت الرصاص يدور حولنا ودانات المدافع تنطلق في كل مكان.. وكانت أشباح الخراب تغطي مدينة الجمال.. بيروت.. التي تحولت أمام الجنون إلي خرائب..
ما بين لبنان ما قبل الحرب الأهلية.. ولبنان ما بعد الحرب الأهلية قصة شعبين.. شعب بني وطنا جميلا.. وشعب آخر دمر كل شيء.. والحقيقة أن الشعبين كانا شعبا واحدا يحمل جواز سفر واحدا.. وملامح متشابهة.. ولكن الذي اختلف هو الإنسان.. ما بين عشق الحياة والرغبة في الموت.. وكانت الحرب الأهلية اللبنانية قمة المأساة..
هذا هو لبنان.. الذي توحد يوما وصنع معجزة اقتصادية.. وهو لبنان نفسه الذي تشرد يوما وصنع كارثة إنسانية.. الإنسان واحد.. والوطن واحد.. ولكن شتان بين يد تبني وأخري تحمل الرشاش..
وبعد سنوات من الحرب والدمار استرد لبنان عافيته وتجاوز سنوات المحنة. وهنا أطل وجه الحريري الملياردير صاحب الملايين.. وبدأت شوارع لبنان تستقبل المارة مرة أخري وبدأت المباني تتخلص من أطلالها.. والناس- وهم الأهم- يتخلصون من شبح الموت الذي يطاردهم.. كانت تجربة رفيق الحريري في إعادة بناء لبنان تجربة فريدة.. لقد استطاع أن يعيد اللبنانيين إلي وطنهم وكان يدرك أن لبنان يحتاج إلي أموال كثيرة فاستغل علاقاته القوية مع دول الخليج خاصة السعودية.. واستغل علاقاته الأوروبية خاصة مع فرنسا.. وخلال فترة قصيرة استطاع أن يعيد لبنان إلي خريطة العالم استثمارا وإنتاجا ودورا..
وكانت مأساة الحريري أمام فندق سان جورج.. وهي ليست مآساة شخص, ولكنها كارثة وطن..
عندما كنت أغادر مكان الجريمة وأتجه إلي الفندق القريب المجاور الذي أنزل فيه.. كانت هناك أشياء كثيرة تدور في ذهني تتجاوز مرارة اللحظة وعمق الجريمة وحجم المأساة..
كان السؤال: لبنان إلي أين!.. وكان السؤال الأخطر: هل يجد لبنان من بين عقلائه من يتجاوز هذه المحنة.. إن مأساة لبنان ما بعد الحرب أنه لم يعد كما كان لبنانا واحدا.. إن في لبنان أكثر من شعب.. وأكثر من جيش.. وأكثر من دين.. وأكثر من رئيس دولة أو رئيس حكومة.. وأكثر من زعيم سياسي.. مأساة لبنان الآن أن التعددية- وقد كانت أجمل ما فيه قد تحولت إلي عبء كبير علي الشعب والدولة..
في لبنان الآن معارضة قوية تقف في وجه النظام وترفض الوجود السوري وترفض تقسيم لبنان المسيحي والمسلم.. وترفض لبنان الميليشيات والجيوش متعددة الجنسيات.. وهي معارضة قوية وواعية وتدرك الهم اللبناني بكل تفاصيله.. وفي الجانب الآخر يقف النظام حائرا ما بين القوات السورية الموجودة علي التراب اللبناني.. والصراعات الداخلية ومحاولات التقسيم.. وقد كان الحريري واحدا من أبرز القيادات التي ترفض تقسيم لبنان وتصر علي بقاء لبنان الوطن الواحد..
في جانب آخر.. تقف بعيدا مواكب المعارضة الخارجية.. البعض منها يري تقسيم لبنان.. والبعض الآخر يري ضرورة جلاء القوات السورية.. والشعب اللبناني ينتظر..
وقبل هذا كله فإن الطامعين في لبنان يتربصون به من كل جانب.. إن للقوي الدولية- خاصة أمريكا وفرنسا حسابات كثيرة في لبنان.. وهناك حسابات أخري للدولة الصهيونية خاصة في الجنوب ابتداء بحزب الله وانتهاء بالجنوب اللبناني كله..
إن أمريكا تتصور أحيانا أن الطريق إلي دمشق وطهران يمكن أن يعبر علي أشلاء بيروت.. وهنا سوف يدفع لبنان ثمنا باهظا في تصفية حسابات ليس طرفا فيها.. كما أن السلطة في لبنان تقف حائرة بين ضغوط كثيرة بعضها في الداخل والبعض الآخر يأتي رياحا عاصفة من الخارج.. وفي كل الأحوال سيكون لبنان هو الضحية.. وربما كان اغتيال الحريري بداية عاصفة جديدة..
وما بين وصول الطائرة إلي بيروت يوم الإثنين الماضي في الثانية والنصف ظهرا.. ومغادرة الطائرة في الثامنة مساء اليوم نفسه كنت أشاهد لبنان الرائع الجميل وأنا عائد إلي القاهرة منشطرا بين أهله.. هذا ينزع جزءا من هنا.. وذاك ينزع جزءا من هناك.. علي الرغم من أن الجميع يشارك في الجريمة.. ولبنان وطن الجمال ينبغي ألا يعود أبدا مسرحا للجريمة.. وما بين الساعة الثالثة والساعة الثامنة عشت أطول يوم في حياتي خلال خمس ساعات.. ذهبت إلي بيروت مشاركا في' عيد الحب' في الصباح.. وعدت في مساء اليوم نفسه من بيروت وقد شاهدت واحدة من كبري جرائم الإرهاب.. وكانت مصادفة غريبة آن آذهب إلي بلد الجمال والحب في يوم عيد الحب.. ولا آري هناك إلا جريمة بشعة دبرتها يد الإدهاب.. لعنة هذا العصر..
ومات الحريري آكبر رموز الحب والعطاء لدي الشعب اللبناني.. في يوم عيد الحب..
وهكذا عشت عيدا للحب الدامي في بيروت!!..